في نقد النقد... راهنية النصّ تجافي ظروفه التاريخية... الثنائي جابر/ ريحان في "شو منلبس!"

للمسرح لغته، كما لباقي الفنون، لا بل إنّ هناك حدًّا أدنى من المعرفة التي يجب أن يتمتّع بها المتلقّي؛ لفهم هذه اللغة التي تنحو في كثير من أوجهها - بعيدًا من المباشرة- التلميح والإيحاء والترميز والتأويل والتفكيك والتركيب وما إليها، لبناء رسالة تتوزّع مستوياتها على المتلقي وفق ثقافته وخلفيّته.

  من هنا، تتّسع تقنيات المسرح وتتنوّع باختلاف العمل المسرحي وطبيعته، ومن أصعب العروض المسرحية، ذاك الذي يقوم به شخص بمفرده، فيؤدّي على خشبة المسرح دورًا مركَّبًا، يسعى إلى أن يُبرز فيه عدّة شخصيات، من خلال سرد مونولوجي غالبًا ما يكون مرهِقًا إلى جانب رهافته، ولكنّه لا يخلو من متعة للّاعب ذاته وللمشاهد، على حدٍّ سواء.

آنجو ريحان ويحيى جابر، قدّما واحدة من أكثر المسرحيات واقعية، تجسّد مرحلة تاريخية محدَّدة، وتتناول قضيّة سياسية واجتماعية معيّنة وواضحة، استهلكَت أقلام كثير من الكتّاب لسنوات، ولا تزال. ولكنّ تحويل المرحلة المذكورة، من حقلها النظريّ إلى بعدها العملانيّ الممسرَح، أعطاها حيوية مشهدية مميّزة جدًّا، ولا سيّما أنّ ريحان هي من بيئة المجتمع السياسي والطائفي الذي يجسّد تلك المرحلة وتداعياتها المتعدّدة، فضلًا عن مقدرتها الفنّية الغنية التي أهّلتها لتؤدّي أدوار شخصيات متعدّدة؛ كالأمّ والأب والشقيقة والجارة والراهبة والشيخة، وحتّى جنديّ العدوّ.

المسرحية "شو منلبس!؟" التي عرضَت على مسرح المدينة، وبدأت رحلة جديدة لها على مسارح لبنانية أخرى، تتضمّن عدّة مراحل، تتناول كثيرًا من القضايا التي لا تنفكّ من ملمح سياسي واجتماعي.

هي، وبالمباشر، تلقي الضوء على شكل من الإسهام الوطني للحزب الشيوعي اللبناني في مواجهة العدوّ الإسرائيلي، وبخاصّة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، إذ تجسّد هذا الدور بشخصية المناضل "يوسف سلامة" وعائلته، وهو الذي حوّل منزله الى مقرّ لمقاتلي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ويجري اعتقاله من بين عائلته، ويُنقل بين سجون ثلاثة، تبدأ بالريجي في النبطية، ثمّ معتقل أنصار، فمعتقل عتليت في فلسطين المحتلّة.

ويذهب جابر بعيدًا في تسليط الضوء، نقدًا، على قضية اجتماعية، يظهر فيها الشيوعيون بصفتهم مدافعين عن حقوق المرأة، وهم الذين ينظّمون دورات لمحْوِ الأمّية للنساء، استنادًا إلى أنّه حقّ من حقوقهنّ. ولكنّهم، في الوقت عينه، يعيشون في تناقضات اجتماعية حادّة؛ كتناقضات شخصية آنجو التي تاهت هُويّتها بين أن ترتدي الإيشارب (تتحجّب) وأن تعتنق الدين المسيحي، وأن تمارِس دور الرَّجل.. إلى كثير من النهفات التي يمرّ بها أيّ مراهق. على ذلك، يتبيّن أنّ الشيوعيّين هم أولاد بيئتهم، وهم، تاليًا، لا يستطيعون مواجهة العادات والتقاليد في البيئة التي يعيشون فيها، بالعنف اللفظي أو بممارسة سلوكات صادمة؛ فيضطرّون إلى ممالأة البيئة والتماهي معها، وعدم مواجهتها بالمباشر، أو في أقل تقدير عدم ممارسة مفاهيمهم بما يعبّر عنهم بأنفسهم. فالشيوعيون، وفق مبدأ السلوك العامّ، كانوا ولا يزالون يعتقدون بأنّ أفضل وسيلة لتغيير المجتمع، هي فهم لغته واحترام عاداته وتقاليده كي يتقبّلهم، من هنا أمكنهم النقاش معه، وتقديم ما هم مقتنعون به نظريًّا، من أجل النفاذ إليه، في إطار كسر المفاهيم الموروثة التي تمنع تطوّره على نحو متدرّج. فحتّى يومنا هذا، تُعدّ أيّ محاولة لتطوير المجتمع وتغييره، فاشلة ولا يمكن أن يُكتَب لها النجاح، في حال طُبِّقت في سياق عنفيّ؛ لأنّ المجتمع – باعتباره وحدة بنيوية- أقوى من تلك المحاولات، وهو سيمارس العداء تجاه مثل هذه الظواهر، عندها تصبح العلاقة بين الطرفَين متوتّرة وملتبسة، لا فكاك منها؛ ولنا في تجربة اليمن الديمقراطي وأفغانستان أكبر شاهد على فشل فرض المفاهيم النظرية، مهما كانت متطوّرة، على مجتمعات تقلّيدية متمسّكة بعادات وتقاليد موروثة راكمتها مئات السنين.

من الجليّ أنّ أيّ تغيير في سلوكات المجتمع، إنّما هو عمل تراكمي له صيرورة تاريخية لا بدّ له من أن يمرّ بها، كما أنّ فرض التغيير بممارسة قناعات معيّنة، في داخل ذلك المجتمع، قد ينعكس سلبًا في الفكرة برمّتها. من هنا، يتجلّى كثير من السلوكات التحرّرية التي اعتمدها الشيوعيون والتقدّميون التي أصبحت راسخة وثابتة في المجتمع – تعبّر آنجو نفسها عن تلك الحالة المتقدّمة- على الرغم من حجم المتغيّرات الدخيلة التي فرضت نفسها بقوّة على هذا المجتمع، ولاقت مقبولية؛ نظرًا إلى بعدها الديني في الوجدان الشعبي.

انتهت هذه المرحلة بعودة سلامِة من المعتقل، وانسحاب قوّات الاحتلال إلى حدود الشريط الحدودي. وهنا تبدأ مرحلة سياسية جديدة عنوانها تثبيت السِّلم الأهلي الذي رعته دول عالمية؛ من أميركا مرورًا بالسعودية وصولًا الى سورية؛ بحيث كان واضحًا، على وفق ما ورد في مقاطع في المسرحية نقلًا عن قادة شيوعيّين عاصروا تلك المرحلة، بأنّ قرارًا صدر من عنجر حيث الحاكم العسكري الفعلي للبنان، ومفاده منع الشيوعيين من القيام بعمليات ضدّ العدوّ الإسرائيلي إلّا بمعرفة الحاكم، وقد بدأت تصل رسائل المنع عبر التهديد، وصولًا إلى التصفية. ومن المفيد، هنا، لفْت الانتباه الى أنّ موقفًا رسميًّا بهذا الصدد لم يصدر عن الحزب الشيوعي؛ لتبقى هذه المرحلة ملكه هو، إلى أن يقرّر الإفراج عنها. علمًا أنّ الشيوعيين آثروا عدم الدخول في معارك جانبية، تحت شعار "المعركة الأساس هي مع العدو الأساس" إلى أن تنحّوا جانبًا بفعل كلّ تلك التطوّرات والظروف، وصولًا إلى تطييف المقاومة بالكامل، وتحاصص الوطن بعد الحرب بين فئة تحكم، وأخرى تحتكر الاقتصاد، وثالثة تدافع عن الوطن، وطبعًا لكلّ فئة لون مذهبي معيّن.

نعم، إنّها مرحلة تاريخية معقّدة، مرّ بها لبنان، دوّنها يحيى جابر بحنكة ومعرفة، وظهّرتها آنجو ريحان بعشق وإتقان، فقدّمت لوحة تاريخية سهّلت على المشاهدين فهْم تلك المرحلة بكلّ أبعادها السياسية والاجتماعية، فوضعت المسرحية نفسها بقوّة إلى جانب كُتُب التاريخ، بل شكّلت مادّة دسمة تنير للباحثين الطريق لتقصّي تفاصيل تلك المرحلة، وفهم ظروفها، وتحليل تداعياتها.

يبقى أن نشير إلى أنّ الثنائي جابر/ريحان قدّما نقدًا لاذعًا ساخرًا جميلًا لشخوص اجتماعية وسياسية مختلفة، وبلغة سلسة محبَّبة لا تكنّ العداء لأحد، بل هي تفرض أسلوبها النقدي بلا تجريح، الأمر الذي يجعل المنتقَد يتقبّل المحتوى، ويستمتع به، على الرغم ممّا يتمتّع به هذا النقد من قوّة في المضمون، وثبات في الحبكة، وثقة في الأداء.