يوميّات من ساحة انتفاضة عاليه

"كيف تكون الثورة نظيفة وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متّسخة به، تهدمه وتغتسل بوعد أن الإنسان جميلٌ حرّاً؟" مهدي عامل

هكذا خرجت ثورتنا من أحشاء هذا الحاضر مثقلة بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية دفعت الناس، كلّ الناس، للصرخة سويّاً. في أولى أيام الانتفاضة الشعبية بدأت التجمعات على دوار عالية- خط الشام قاطعة الطريق الدولية فشكلت حالة لاقت ساحات الوطن وربطت أوصاله من القلب. فأصبح هذا الدوّار معروفاً بـ"الساحة" وضمّ أبناء عاليه والمحيط. شابات وشبان نساء ورجال منهم من لم تكن ساحات التظاهر تعرفهم سابقاً، فكانت سابقة لمن خلع جلباب الزعامات المعروفة. منهم من خلع هذا المعطف سابقاً ولكن لم تكن الساحات تعرفهم ومنهم من كان في الساحات منذ زمن. هكذا كان الشوف أيضاً، في بعقلين وبيت الدين، في حركة يومية لاقت تجاوباً شعبيّاً من أبناء المنطقة.

في اليوم الأول رفضت ساحة عاليه أعلام أحزاب السلطة وتوجّهت في مسيرة نحو السراي حيث كرّست العلم اللبناني والشعار الأوحد "كلن يعني كلن". نحن في عاليه، كُنّا في أولى أيامنا بالعشرات ومع تقدم الأيام صرنا بالمئات واليوم صرنا بالآف. ثُبّتت الهوية، كما ثُبّتت مطالبنا في معركة واضحة لا تراجع عنها ضد السلطة السياسة والاقتصادية الفاسدة. ولمّا كان التحدي الأكبر المحافظة على لامركزية التظاهرات، ربحت عاليه التحدي وبنت الثقة خطوة خطوة.

على خط الشام - دوار عاليه أصبح موعدنا اليومي لنخلق فسحة للنقاش والتحضير للطرق والأساليب لضمان الاستمرار. ندوات اقتصادية، قانونية، سياسية، يوغا، وفن، هكذا كانت ساحتنا تشبهنا بتنوعها وبوعيها.
محطات أساسية زادت من اندفاعنا بدأت مع نثر الأرز من قبل الأهالي خلال المسيرات وتأكدت مع التزام شبه الكلي للمحال التجارية تلبيةً لدعوة "ساهم بالحل، سكّر المحل". أما الطلاب، نبض هذه الانتفاضة، لبّوا النداء في رفض الخضوع لقرار فتح المدارس، فكانت جولات المدارس أكثر من جيّدة وأعادت التأكيد أن القرار للناس. كسرت الساحة هاجس الخوف والتردد ما وسَع الساحة أكثر لتتحصّن بأبناء المنطقة الذين كانوا يعبرون عن رفضهم في ساحات بيروت. الكل الآن هنا، في مكانه الطبيعي.

بعد انتهاء مرحلة تسكير الطرقات انتقلت الساحة مؤقتاً إلى ساحة شكيب جابر على خط الشام أيضاً وحافظت في يومياتها على تظاهرات صباحية ولقاءات مسائية. ومن سلسلة التظاهرات، عدّة وقفات أمام المصارف، والحصة الأكبر كانت لمصرف لبنان في عاليه، المدارس التي خالفت رأي الشارع بالإضراب، شركة الكهرباء، ومصلحة المياه والسراي.
"مدرسة الثورة" فُتِحت أبوابها في الساحة، وكان للأطفال مساحة شبه يومية للرسم والتفاعل واللقاء، حيث مُنحت لهم المساحة والوسيلة التي يستحقونها للتعبير، فتجلّت في الساحة إنتاجاتهم اليومية من رسومات وشعارات، ما شكّل محطةً تعكس الأمل القادم على أيادي الأجيال.

قد يكون زمن الندوات داخل القاعات العامة قد ولّى، إنما للحوار في الساحات طعمٌ آخر، فكان اللقاء مع د. غسان ديبة، رئيس قسم الإقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، أوّل الجلسات الحوارية، بعنوان "الاقتصاد ما بعد الثورة". وعلى الطريق العام ورغم كلّ الضجيج المحيط، كان الحوار الأمثل والنقاش المفتوح الذي عبّر عن مدى اطّلاع الناس ووعيهم لقضاياهم. مسار البوصلة للناس في الشارع بات واضحاً: إنها معركة طبقية بامتياز.

"الثورة بين الشارع والدستور" كان عنوان جلستنا الحوارية الثانية مع د. سامر غمرون وهو عضو مؤسس وعضو هيئة إدارية في المفكرة القانونية وأستاذ محاضر في جامعة القديس يوسف. وفي المجال الاقتصادي أيضاً ، كان الحوار المفتوح حول القطاع المصارف مع الصحافية الاقتصادية رشا أبو زكي. وكانت دعوة "تعو نحكي سياسة وقانون" مع الأستاذ نزار صاغية، مدير وعضو مؤسس في المفكرة القانونية، في حلقة حوارية بعنوان "الفرق بين نظام الزعامة ونظام الدولة" لتؤكّد على دور الشارع في المرحلة المقبلة، فالشارع يمثّل الحكم والرقيب والحسي الذي يقف بالمرصاد وهو الكفيل للاستمرار. ولم تخلُ الساحة من الأغاني الثورية التي علا صوتها مع ابن الجبل الثائر الفنان الجميل خالد الهبر في تحية فنية منه للثوار.

ولأن عاليه كما باقي الساحات عنونت هويّتها، لم تخلُ أيّامنا فيها من المضايقات والتضييقات التي لم تثنينا عن النضال بل زادت من زخمنا اليومي. يافطات تُزال فنطبع غيرها، "بلطجة" من هنا ومحاولة كسر عزيمة من هناك، فيأتي الردّ أكثر عزيمةً وإصراراً. وكما قال الشهيد كمال جنبلاط "الحياة في أصالتها ثورة فكن ثائراًعلى الدوام" ونحن على الخطى سائرون، نحن بخير ماضون.