القمع السلطوي ليس علاجاً للفقر والانهيار

ها قد مضى حوالي مائة يوم على اندلاع الانتفاضة الشعبية، والسلطة ما زالت تماطل وتتحايل على الناس، غارقة في تحاصصاتها ومعايير نظامها الطائفي. كما مضى ثلاثة أشهر تقريباً على استقالة حكومة سعد الحريري تحت ضغط الشارع، واصلت خلالها الأطراف السلطوية هدر الوقت في تشكيل الحكومة دون طرح لأي برنامج إنقاذي.

هذا ما يؤكد مدى عقم النظام الطائفي وآلياته ومعاييره، وفشل طبقته السلطوية وسياساتها المتواصلة منذ توقف الحرب الأهلية. وهو ما فاقم الأوضاع العامة للشعب، وأوصل البلاد إلى الانهيار الاقتصادي والمالي، وتوقفت آلاف المؤسسات عن العمل، وتسريح العاملين فيها أو معظمهم، وارتفاع مريع لنسبة البطالة.

وهذا وحده كافٍ لبروز الغضب الشعبي، فكيف وأنّه يترافق مع تعدّي المصارف على مدّخرات الناس الذين يُمنعون من سحبها وهي جنى عمرهم، فيشعرون بالمهانة في الوقوف ساعات أحياناً في المصارف للحصول على مئة أو مئتي دولار في الأسبوع، لا تكفي لسدّ حاجاتهم الضرورية، في وقت ارتفعت فيه أسعار الكثير من السلع الغذائية، مع التراجع الكبير في قيمة الليرة اللبنانية. والأكثر غرابة، هو استمرار أطراف السلطة، في لا مبالاتهم، حيال الوضع الكارثي والمصير القائم، وإزاء الغضب الشعبي في انتفاضة هي الأكبر في تاريخ لبنان. وفيما يحاول كلّ طرف منها رمي تهمة العرقلة على الآخر، يواصلون بكل صفاقة تناتشهم وصراعهم على الأحجام، والحقائب الوزارية الدسمة، وحتى وهم من لون واحد. فإنّهم جميعهم مسؤولون عن حالة الانهيار مرّتين، الأولى في التسبّب بها، والثانية في أحجامهم عن معالجتها وإدارة الظهر لصرخات الشعب. فما يزالون في الذهنية نفسها، متمسّكين بنظامهم الطائفي القائم، الذي حمى ويحمي فسادهم، وأوصلهم أصلاً إلى السلطة، ليتيح لهم استخدامه لتأجيج العصبيات، وتقسيم صفوف الطبقات الشعبية، لتجنّب تحركها الموحد في الشارع في مواجهة فسادهم وسياستهم التي أفقرت أكثرية الشعب.

لقد أظهرت التجربة العملية مدى التناقض والخلل الأصلي بين الطابع الطائفي العمودي لبنية الدولة وسلطتها، وبين وظيفتها الأفقية التي تتعلق بإدارة الشأن العام للشعب والبلد. وقد أنتجت هذه البنية الطائفية، حالة انقسامات وتناقضات وحروباً أهلية، وأتاحت التدخلات والوصايات الخارجية، وأضعفت مناعة لبنان، وحالت دون تحوّله من مجرد كيان إلى وطن. ولا ينجم الفشل في جعل لبنان فعليّاً وطناً ورسالة، من تعدد الأديان والطوائف في مجتمعه، وإنّما من نظام وسلطة سياسية مبنية على الطائفية تدير المجتمع على أساس التحاصص الطائفي. علماً أنّ التجربة أثبتت أنّ جمعَ وتوافقَ ممثلي وزعامات الطوائف في حكومة، لا يعني وحدة الوطن بل وحدة مصالح هذه الزعامات، وبطابعٍ فوقيّ وظرفيّ لا يعرف الثبات. لذلك ما يزال مفهوم الوطن مغيّباً أو ملتبساً على الأقل، نظراً لتداخله مع المنظور الطائفي لدى أطراف هذا النظام وسلطته. وهذا أيضاً ما يجعل الحكومات المشكلة على أساس الميثاقية والتوافقية بمفهومها الطائفي، نسخة عن البرلمان وكتله النيابية، فيتعطّل دوره في محاسبة هذه الحكومات، ويبقى الفساد والهدر متمادييْن.

إنّ استمرار الانتفاضة وتخطي حواجز الطوائف والمناطق يبين بوضوح أنّ الجوع وقلق الناس، وانسداد الأفق أمام مستقبل وحياة أبنائهم، هو في أساس هذه الانتفاضة واستمرارها، وهو العامل الحقيقي لبناء وحدة الوطن. وإنّ أي محاولة لاستغلال هذه الانتفاضة، داخلية كانت أم خارجية، لا يمكنها طمس حجمها الشعبي غير المسبوق، وتشويه أهدافها التغييرية. أوليست المماطلة السلطوية هي التي تتيح للمستغلين الصيد في الماء العكر؟ إنّ تحايل السلطة المتمادي لم يعُدْ ينطلي على الناس، ولا القمع السلطوي المفرط والمستنكر يخيفهم، فصوت الفقر والجوع أقوى. ولا يعالج الفقر والانهيار بالعنف الذي يستدرج الغضب والعنف. ولا بالمسكّنات والوعود الكاذبة، والتسويات والتوافقات الفوقية. فقد دلّت التجربة أنّها دون جدوى. فالعلاج الحقيقي، هو بتغيير السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وتشكيل حكومة وطنية انتقالية مستقلة عن أحزاب السلطة، تضع قانونَ انتخابٍ نسبيّ وغير طائفي، وبالدائرة الوطنية، وإجراء انتخابات مبكرة، لانتخاب ممثلين حقيقيين للشعب، والعمل لوقف الانهيار، وحماية أموال المودعين خصوصاً الصغار، وإعادة المال المنهوب. هذا هو السبيل لتجنيب لبنان المصير القاتم.

  • العدد رقم: 371
`


موريس نهرا