إعادة الاعتبار لحركة التحرّر الوطني الفلسطيني

تجتاح الدول العربية موجة التطبيع مع العدوّ الاسرائيلي. وإقامة علاقات طبيعية، وعلى كافة الصعد الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بكافة جوانبها الثقافية والصحية والفنية والسياحية. ويبدو أن مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأته الإدارة الأميركية بقيادة بوش الأب ومن ثم الإبن. في حين شمعون بيريز وكونداليسا رايس أرادا واثناء لعدوان والحرب على لبنان عام 2006، تطويره إلى مشروع أشمل وأوسع، وتحت مسمّى الشرق الأوسط الكبير. كي ينضمّ الكيان الصهيوني الغاصب إليه، ويبدو أن المشروع، قد بدأ يأخذ مساره. وحيّز التنفيذ على يد ترامب - نتنياهو.

تحوّل التطبيع بين العدوّ الإسرائيلي، وعدد من الدول العربية، إلى ورقة انتخابية وازنة، في سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية، يستخدمها المرشح ترامب لكسب اللوبي اليهودي في أميركا، بعد خسارته لأعداد كبيرة من أصوات الأميركيين من أصول إفريقية، نتيجة سياسته العنصرية الفاشية. ولبنان لم يسلم من الضغوطات الأميركية، وما سُمّي إتفاق إطار، لترسيم الحدود، يأتي في نفس المسار والسياق. سياسة التطبيع، بدأها ترامب وهو المعروف بانتمائه إلى جماعة الصهيونية المسيحية في أميركا، وصهره كوشنير الصهيوني الأمين للحركة الصهيونية العالمية. عندما طرحا ما أسمياه بصفقة القرن. لإنهاء حالة الصراع العربي - الاسرائيلي، وإحلال حالة جديدة مكانها، وهو الصراع العربي- الايراني. والتطبيع أحد أهمّ مندرجات، ومرتكزات صفقة القرن المطروحة. التي وفي حال نجاحها، يتمّ تصفية القضية الفلسطينية. ويجري تأبيد الكيان الصهيوني وديمومته، بدعم وبأيادٍ عربية، وعلى يد قادة الأنظمة العربية بالدرجة الأولى. التي خضعت للضغوطات الأميركية، وعبر العقوبات الاقتصادية والديون، والحصار والابتزاز وشراء الذمم، للتطبيع... دور وموقف منظمة التحرير والسلطة، أذكر تصريحاً لصائب عريقات أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي يعالج الآن في إحدى المستشفيات الصهيونية من الكورونا، قال فيه: " انّ منظمة التحرير الفلسطينية، قد تعيد النظر بمسألة الاعتراف بدولة اسرائيل، وتنضم إلى مجموعة المنظمات الدولية والقانونية، الشاجبة لحركة الاستيطان الاسرائيلية". الجدير بالذكر، أن منظمة التحرير الفلسطينية وبعد اتفاقية كامب ديفيد، ولكن إنعاشاً للذاكرة العربية، هي السبّاقة وتحتل المرتبة الثانية بعد مصر، في عملية التطبيع، فهي اعترفت (بدولة اسرائيل) اي الكيان الغاصب، كما جاء في بنود اتفاق اوسلو، ومنذ أكثر من عشرين عاماً!!
المضحك المبكي في هذا التصريح، أن منظمة التحرير الفلسطينية، التي عليها أن تكون الرائدة وفي طليعة هذه المنظمات الدولية، التي تدين السياسة الاستيطانية، وضرورة توقفها، لمدة سنتين، تجري خلالها مفاوضات الحلّ النهائي، وذلك بحسب اتفاق أوسلو المشؤوم. هذا في الشكل، أما في المضمون، فإن المنظمة هي للتحرير، وبدل أن تكون إسماً على مسمّىً بالفعل، تحوّلت بعد اتفاق اوسلو، إلى جمعية وأقلَّ من دارٍ للبلدية، تدير عبرها شؤون الفلسطينيين في الداخل والخارج. واليوم انقسمت السلطة إلى سلطتين، الأولى في غزة والثانية في رام الله !!؟ وتحوّل التحرير إلى صراع على السلطة ضمن البيت الفلسطيني الواحد.

لم نكن نتوقّع أن يعلن عريقات عن قطع في المسار السياسي المدمّر للسلطة، ومنظمة التحرير الفلسطينية، لم نتوقّع أن تجري السلطة الفلسطينية، ومؤسساتها و"فتح" بالذات، مراجعة نقدية، لما آلت اليه الحالة الفلسطينية الآن. وبعد مرور أكثر من عقدين، على اتفاق اوسلو، وسقوط الرهان على أميركا، كراع ومرجعية وحيدة لحلّ القضية الفلسطينية، طوّبتها وكرّستها السلطة الرسمية الفلسطينية للقيام بهذا الدور. لأنهم متورطون وكما كلّ المسؤولين السياسيين الرسميين الفلسطينيين، آمّا مخابراتياً، وإمّا مصالح مادية وشخصية، ولم يعد بإمكانهم التراجع. فهل نعجب ونستنكر ونغضب، من الدول العربية اللاهثة وراء التطبيع. ونغضّ الطرف عن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، إصحاب القضية، ونعفيهما من المسؤولية والمحاسبة. الدول العربية تلتحق بالمسار، الذي قادته للأسف السلطة ومنظمة التحرير وحركة "فتح"، أي التطبيع والاعتراف المجاني.

الخطأ الاستراتيجي والتاريخي ...
الخطأ الاستراتيجي والتاريخي للسلطة الفلسطينية، برأينا يعود إلى عاملين:
الاول يتمثّل بالمشروع الذي حملته منظمة التحرير والسلطة، بعد اتفاق اوسلو القائل: " بان المفاوضات مع العدوّ، هي السبيل الوحيد، لحلّ القضية الفلسطينية، التي بدأت من التحرير لفلسطين كلّ فلسطين، وتراجعت إلى الاعتراف بدولة مصطنعة اسمها "إسرائيل"، مقابل اعتراف الأخيرة بمنظمة التحرير، وليس بدولة فلسطينية. كممثل وحيد للشعب الفلسطيني. في حين منظمة التحرير هي عضو مراقب في الأمم المتحدة، ويعترف بها وبدولة فلسطين 128 دولة. فماذا أضاف الاعتراف الصهيوني بمنظمة التحرير؟ واليوم السلطة الفلسطينية تتآكل وقد تسقط في أية لحظة! إنّ أقرب مستوطنة في الضفة، هي على بعد أمتار من مركز السلطة في رام الله...!!؟

والعامل الثاني هو أن المسؤولين الرسميين، في السلطة الفلسطينية، باتوا يشكّلون الطبقة الرأسمالية الفلسطينية، التي تشابكت مصالحها الاقتصادية، مع الرأسماليين الصهاينة، وأنشأوا معاً شركات مشتركة، على سبيل المثال لا الحصر، صائب عريقات أقام مع متمولين صهاينة، كازينو في اريحا !. أحمد قريع يمتلك شركات للإسمنت، تستخدم في بناء المستوطنات الاسرائيلية، أما استثمارات ابن محمود عباس رئيس السلطة، فحدّث ولا حرج...!!

والأخطر من كلّ ذلك، أن هذه السياسات للبرجوازية الفلسطينية، وهي على رأس السلطة الآن، أدّت إلى تشويه مريع، في الوعي السياسي والطبقي والقومي، وإرساء ثقافة التنازلات والمفاوضات العبثية، والاعتراف المجاني بعدو، أنشأ واصطنع كياناً على أرض فلسطين التاريخية! ويدعو للإقرار والاعتراف بوجوده، باسم الواقعية السياسية! والسؤال من أنهى القضية الفلسطينية وأضاع حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه؟!
قال المناضل الثوري الراحل جورج حبش:" إذا كان الرجال، لم يحقّقوا شيئاً للقضية، فالمطلوب تغيير الرجال وليس القضية". وهذا يعني بكلمة واحدة، إعادة الاعتبار لحركة التحرير الوطني الفلسطيني، ومدخله إعادة تأسيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووضع برنامج استراتيجي موحّد، وتشكيل جبهة مقاومة وطنية فلسطينية واحدة، لقيادة النضال الفلسطيني التحرّري. وإخراج المسؤولين الرسميين الفلسطينيين من المشهد السياسي وحمل القضية الفلسطينية، وإنهاء أكثر من تسع مؤسسات وهيكليات أمنية للسلطة، ما الحاجة إليها وبهذا العدد الذي يفوق أضعاف ما هو متواجد في اميركا وروسيا مجتمعين. جلّها ينسّق مع الموساد والشاباك، ويسلّمون المقاومين الفلسطينيين للعدو الاسرائيلي، في حين محمود عباس ينعت العمليات المقاومة بالعمليات القذرة، ويعتذر من العدو عن إصابة أو قتل جندي من جنود الاحتلال، الذين يقومون بمصادرة الأراضي والبلدات والبيوت، وبالتهويد القسري للمدن الفلسطينية غير آبهين، يضربون بعرض الحائط، بكلّ الأعراف الدولية وشرعة حقوق الانسان.

المسؤولون الرسميون الحاليون للسلطة الفلسطينية، هم هم من ساهم في الإضرار وإنهاء القضية الفلسطينية، عن وعي وإدراك وتصميم. وقبل رمي اللوم والإشارة بأصابع الاتهام على الامبريالية الاميركية والصهيونية والرجعية العربية كما تعوّدنا في خطابنا السياسي، وعلى مدى عقود. لنصوّب أصابع الاتهام، على من يتحمّل وزر ما اقترفت يداه، ممن يدّعي أو تصدّى لحمل القضية. فساهم بتصفيتها، حيث أسقط من ميثاق منظمة التحرير بند المتعلّق بممارسة الكفاح المسلح، واستكان للعدو، وسلّم للوسيط الوحيد، أي الإدارة الأميركية كلّ أوراقه، التي استبدلتها الأخيرة، بمكر ورعونة وبالضغوطات، بما وصفته بصفقة القرن بالإضافة إلى تهويد القدس وتشريع المستوطنات وقضم الأراضي وتشريد الفلسطينيين من قراهم إلى مخيمات اللجوء في وعلى أرض الوطن.

البديل عن الفعل المقاوم وبأرفع أشكاله أي المسلّح، استعاض عنه محمود عباس، باعتماد اسلوب المفاوضات العقيمة مع عدو ماكر، يلعب على عامل الزمن، يفاوض ويغدر لطبيعته العدوانية، حتى إنهاك خصمه، ويدعوه بعدها إلى الاستسلام. ساهم مع العدو الاسرائيلي في قمع الانتفاضات وتسليم المقاومين إلى الموساد. كان شعار محمود عباس "ما لم يتحقق بالمفاوضات، لا يتحقق إلا بالمفاوضات". في حين شعار التحرير للشعوب المضطهدة والمحتلة، كان ولا يزال عبر التاريخ، ما لم يتحقق بالمقاومة، يتحقق بالمقاومة أكثر.

وفي مطلع العام سوف تحتفل "فتح" كعادتها، بذكرى انطلاقتها لتحرير فلسطين كلّ فلسطين، وبجناحها العسكري " قوات العاصفة". في حين أصبحت كحركة تحرّر، خارج التاريخ ولم يعد لديها ما تقوله للشعب الفلسطيني. نوجّه كلامنا نحو "فتح" لأنها تمسك بكلّ المؤسسات الفلسطينية، بالسلطة ومنظمة التحرير والدبلوماسية والعلاقات الدولية، جميعهم من الفتحاويين، ولكن هذا لا يعفي باقي الفصائل من المسؤولية التاريخية، وفي هذا الظرف الدقيق والخطير. وهنا أمام الفصائل الفلسطينية والأحزاب والحركات اليسارية التقدمية الفلسطينية مهمة دقيقة وصعبة ولكن ليست بمستحيلة، لإعادة استنهاض حركة التحرّر الوطني الفلسطيني. حركة من نوع جديد، لتجديد الأمل عند الشعب الفلسطيني، والإبقاء على شعلة الثورة والتحرير والروح الكفاحية، عند الشباب الفلسطيني، الذي يعطينا كلّ يوم درساً في الصلابة والعزم والإرادة الفولاذية المقاومة في انتفاضاته المجيدة.