أعمال اللجنة الدستورية السورية والتعثّر المزمن

 

على عكس الاجتماعات الأولى التي جمعت وفود النظام والمعارضة السورية للخوض في مفاوضات الحلّ في سورية، باتت جميع المؤتمرات أو الاجتماعات الحالية لا تحظى بأي اهتمام من الشارع السوري الذي لم يعد يعلق آمالاً عليها لوقف القتال والبدء الحقيقي بمسيرة الحل السلمي لتغيير واقع الحال الذي يعيشه السوريون. وإذ دخلت مفاوضات "اللجنة الدستورية السورية" في اجتماع اعمالها الأخير، والرابع منذ تأسيسها، في تفاصيلٍ بعيدة عن الجوهر الذي شُكِّلت من أجله، وهو الخروج بدستور جديد يتفق عليه طرفا النظام والمعارضة والمجتمع المدني الممثَّلين في اللجنة، يشعر السوريون أن الحل الذي ينقذهم من الموت والدمار والنزوح والفقر والخوف أخذ يبتعد، مع وضع العصي في عجلاته.

فبعد اختتام أعمال الجولة الرابعة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، في 4 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، والتي استمرت خمسة أيام في جنيف، لا يمكن القول إنها خرجت بشيء سوى ما أدخل السرور إلى نفس المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية، غِير بيدرسون، حين أعلن عن إنجازه بالقول: "يسعدني جداً أن أبلغكم أن اللجنة اتفقت، وأظن إنها المرة الأولى التي تنجح في الاتفاق على برنامج اجتماعنا المقبل وموعده"، والذي تقرر عقده، في 25 كانون الثاني/ يناير المقبل. فسوى هذا الاتفاق لم تحقق الجولة أي شيء، بعد أن خاضت الوفود في تفاصيل، لا يمكن حسمها إلا بعد سنوات، ومنها الهوية والموضوعات التي لا تعد من اختصاص عمل اللجنة، مثل موضوع تشجيع اللاجئين على العودة. كما طرح النظام موضوعات أخرى للنقاش، منها موضوع إدانة الدول الداعمة للإرهاب وتعويض سورية عن الضرر الذي لحقها جراء الحرب، علاوة على إدانة الاحتلال، وهي أيضاً موضوعات ليست من اختصاص اللجنة ولا يمكن القول عنها سوى إنها تحقيق لمقولة وزير الخارجية السوري الراحل، وليد المعلم، حين تحدث عن المفاوضات وقال جملته الشهيرة: "سنغرقهم بالتفاصيل". وقد غرق الجميع في التفاصيل، معارضة وموالاة، تاركين البلاد تموج بين المتدخلين في الحرب السورية، والمتصارعين على أرضها والمقتسمين ثرواتها وخيراتها، من روس وأميركيين وإيرانيين وأتراك.

وكانت الدعوة لتشكيل اللجنة الدستورية السورية قد صدرت عن "مؤتمر الحوار الوطني السوري" الذي عقدته روسيا في سوتشي، في 30 كانون الثاني/ يناير 2018، وحضره وفدٌ من النظام ضمّ مئات الأشخاص، وعدد من المعارضين المنضوين ضمن منصتيْ موسكو والقاهرة، بينما رفضت الهيئة العليا للمفاوضات التابعة للمعارضة حضوره. وبعد فترة مخاضٍ، ليست قصيرة، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في 23 أيلول/ سبتمبر 2019، عن تشكيل "اللجنة الدستورية السورية" التي ستعقد اجتماعاتها بإشراف الأمم المتحدة، من أجل إعادة صياغة دستور البلاد، ولكي تكون بداية المسار السياسي للحل السلمي وفق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254 لعام 2015. وقال غوتيرش إن هدفها المساهمة في إخراج البلاد من المأساة التي تعيشها. وقد وافق وفدا النظام ولجنة المفاوضات السورية، التابعة للمعارضة، على تشكيل هذه اللجنة من أجل إعادة صياغة الدستور السوري كمقدمة لتشكيل "هيئة الحكم الانتقالي" التي نصّ قرار مجلس الأمن رقم 2118 لعام 2013 على تشكيلها وأعطى الأولية لهذه الهيئة في إطار عملية الحل السياسي في سورية، والتي عاد القرار رقم 2254 إلى تأكيد أهميتها من أجل إنهاء النزاع في البلاد.

ولتعديل الدستور مكانةٌ هامةٌ في أي عملية تغيير سياسي في سورية، كون الدستور السوري بشكله الأخير قد صيغ سنة 1973، وطالبت المعارضة السورية عبر تاريخها الطويل ومن خلال أحزابها بتغييره من أجل كسر احتكار حزب البعث، الحاكم في سورية منذ سنة 1963، للسلطة عبر المادة الثامنة التي تنصّ على أن حزب البعث يعد قائداً للدولة والمجتمع. وعلى الرغم من أن النظام قد عمد، في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، إلى تشكيل لجنة لتعديل الدستور وإزالة المادة الثامنة منه، بعد اندلاع الاحتجاجات في البلاد، إلا أن المعارضة لم تجد تغييراً في الدستور الجديد الذي جرى استفتاء شعبي عليه، وأُقر بموجب مرسوم رئاسي، في 27 شباط/ فبراير 2012. وكان مأخذ المعارضة عليه من ناحية صلاحية رئيس الجمهورية، وعدم إيجاده توازناً بين السلطات.

وبينما أعطيت لجنة تعديل الدستور السوري سنة 2011 فترة محدّدة بأربعة أشهر لإنجاز التعديل، لم تُحدَّد مهلة معينة لـ "اللجنة الدستورية السورية" من أجل إتمام عملها، وهو ما أكدته جولات أعمالها الأربع التي أخذت أخيراً تخوض في السياسي بدلاً من الخوض في القانوني. وبينما قالت المعارضة إن إنجاز الجولة الأولى التي عقدت، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ينحصر في ابتعاد وفد النظام عن تخوين المعارضة، لم يخرج عن الجولات الثلاث التي تبعتها ما يؤسس لكتابة الدستور. أما ما طرحه وفد النظام في الجولة الثانية للنقاش، والذي أطلق عليه تسمية "الركائز الوطنية التي تهم الشعب السوري" فجرى الخوض فيها في بقية الجولات مع موضوعات أخرى لا تدخل ضمن بنود الدستور.


يبقى أنه مع عدم التوصّل لشيء ملموس يمكن البناء عليه في صياغة الدستور، والتعويل على هذا الأمر في البدء بالحل، يزداد الشعور لدى السوريين في انسداد أفق الحل السياسي. غير أن المتفائلين يرون في مجرد جلوس وفدي المعارضة والنظام على طاولة المفاوضات، من دون تخوين أو تبادل اتهامات، هو شيء إيجابي يعزى الفضل به للجنة الدستورية.