العالم بين الكورونا وما بعدها


قلَّ أن اتفق سياسيو العالم ومفكّروه من مختلف المشارب على أن حجم الرزيّة باهظٌ وباهظٌ جداً، فوباء يخترق حصون العالم في القرن الواحد والعشرين - قرن العلم بامتياز - بما فيها حصون مراكزه "الأكثر عراقة" ليسقط البشر "مثل الذباب" كما يقال عندنا. إن الوضع مربك ومربك جداً، ففي شوارع الولايات المتحدة، كما شوارع لندن وفرنسا وألمانيا وايطاليا واسبانيا... يموت الناس بالآلاف قبل أن يصلوا إلى مخادع المستشفيات. لقد تعوّد العالم على رؤية هذه المشاهد التلفازية في بلدان غرب إفريقيا حين اجتاحها وباء "الأيبولا"، أو في بلدان آسيا وأميركا الجنوبية حين اخترقها وباء "السارس1" الأب السلالي للوباء الحالي "كوفيد19".


*الكورونا وكشف المستور.
وبقطع النظر عن الجدل حول أسباب ولادة وانتشار الوباء إن كان في إطار المؤامرات والصراعات العنيفة بين كبريات الدول والاحتكارات، وهو ما ذهب إليه مثلا المفكّر الأميركي "ناعوم تشومسكي" الذي ردّ كلّ ما يقع إلى ضراوة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أو أن الوباء هو نتيجة منطقية وحتمية لِكَمِّ التدمير الذي سلّطته الرأسمالية على الإنسان والطبيعة والمحيط، فإن الانشغال اليوم يكاد ينحصر في مآلات الأوضاع واتجاهات تطورها، هل نحو مزيدٍ من الفتك والقتل على قارعة الطريق، أم في اتجاه الانفراج. إن التفكير يكاد يتجه لا نحو الآن وحسب... لأن الكارثة حاصلة لا محالة في مراكز العالم وأطرافه، بل نحو الغد، نحو وضع ما بعد الكورونا بعد ما أصاب الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقيم والوجود الإنساني برمّته من أسئلة حارقة وعميقة وجوهرية.
لقد أثبتت الأزمة/ الكارثة التي دشن بها العالم العقد الثالث من الألفية الثالثة حقائق موضوعية كانت إلى وقت قريب من قبيل "الايدولوجيا" المناوئة للتقدّم والتطوّر والطبيعة البشرية أصلاً، هذه الحقائق تهمّ الجوهر الفعلي للرأسمالية كنمط إنتاج ونموذج مجتمع. لقد خرجت "صيحات" من وسط الوسط الرأسمالي لتقول إن هذا النظام لم يضع الإنسان في مركز اهتمامه كما ادّعى منذ قرون، إن قلبه ومركزه محتلٌّ بالتمام والكمال بقيم الربح والاستثمار لا غير، الاستثمار الجشع والأناني والموغل في الوحشية. إن الوضع الكارثي للقطاع والخدمات الصحية كشف المخفيّ والذي كان لعقود مجال نفاق ورياء، لقد خرج رؤساء ووزراء ومسؤولون كبار ليصوغوا خطاباً حول وضع قطاع الصحة في بلدانهم كان إلى أيامٍ خلت خليقاً بمسؤولي "العالمثالث"... أي البلدان التي لا هاجس لها سوى صيانة عروش مستبدّيها وتوزيع الثروة على حكامها وعائلاتهم وعصاباتهم. لقد انكشف المستور وأصبح مشهد موت الناس "كالذباب" مشهداً مألوفاً وعادياً. لكن هؤلاء الناس هم من الفقراء والمهمشين والمحرومين. صحيح أن الوباء طال بعض الأثرياء، لكن القدرة على التصدُي له كانت متفاوتة ومتفاوتة جداً، ففي الولايات المتحدة ظهرت الحقيقة المقرفة، من هو غير قادر على الدفع لا يتمتع بالخدمة، علماً وأن معلوم النقل للمشفى يصل مبلغ 3000 دولار، يجب أن تدفع قبل هبوط النقالات من سيارات الإسعاف، وفي بريطانيا لا يحتسب في الإحصاءات اليومية لضحايا الوباء من يقضون في بيوت المسنين والعُجّز (وما أكثرهم)، وهو ذات الحال في ألمانيا. أما ايطاليا فقد تركها "الأشقاء في الاتحاد الأوربي" تقاوم لوحدها، ولولا التدخل الصيني والروسي والكوبي... وأيضا التونسي، لكان الوضع أكثر كارثية.
وفي كلمة، فإن ما كان منذ شهرين قناعة لدى مناوئي الرأسمالية، أصبح اليوم "قناعة" لدى قطاع واسع من الناس، فالوباء أعطى أدلة جديدة على حقيقة الرأسمالية الجشعة، وعلى حقيقة اقتصادها واجتماعها وسياستها وثقافتها...

*أين يتجه العالم ما بعد الكورونا؟
لا شكّ أن تداعيات الوباء على مختلف الأصعدة ستكون عميقة وعميقة جداً، والقناعة أصبحت "مشاعة" أن عالم ما بعد الكورونا سيكون مختلفاً عمّا قبلها، فحتى عبد الفتاح السيسي والياس الفخفاخ أقرّا بذلك.
إن انتشار الوباء لم ينتج أزمة عامة في العالم، بل هو في الحقيقة عمّق هذه الأزمة ووسّعها، فالأزمة الاقتصادية تعود إلى تداعيات أزمة 2008 التي تتواصل من خلال عديد المؤشرات ( تراجع مؤشرات الاستثمار والاستهلاك والتجارة الخارجية والقدرة التشغيلية، تفاقم المديونية...)، وفي نهاية العام المنصرم (2019) كان عديد المؤسسات ومراكز البحث تتحدث عن اندلاع أزمة عميقة في السنة الحالية، ولم تكن هذه الدراسات تضع غالباً معطى الوباء، لكن ظهور الوباء وانتشاره في الأيام الأولى من العام الجديد حوّل كلّ الاستشرافات إلى حقائق ملموسة، فالانهيار طال العديد من قطاعات الإنتاج وبالأخص التي تهمّ النقل بمختلف فروعه وتقدّر خسائر قطاع النقل الجوي لوحده هذا العام إلى ما بين 63 و 113 مليار دولار، ويشمل الانهيار في القطاعات المرتبطة بمجال النقل مثل النفط والمحروقات، فالقطاع يشهد أعنف أزماته منذ السبعينيات (1973) وبداية الثمانينيات (1984)، ووصل المشهد النفطي قمة "التراجيديا / الكوميديا" حين بلغ سعر النفط الأميركي أقلّ من دولار واحد ، وإن كان للموضع شأن بالصراع الضاري بين كبريات الدول المنتجة، فإن أسعار البيع اليوم وصلت مستوى غير مسبوق تقريباً (بين 10 و15 دولار للبرميل) بعد اتفاق روسي/ سعودي يحمل عديد الدلالات الاقتصادية. ويطال الركود التجارة الدولية التي من المرجّح أن يتراجع حجم مبادلاتها هذا العام بين 15 % و30%.
والركود يطال القطاع المالي والبنكي بمقتضى الترابط العضوي بينه وبين منظومة الإنتاج الحقيقي، كما أن تخصيص ميزانيات ضخمة للتعاطي مع الوباء وتداعياته يسبب انخراماً كبيراً في موازنات الدول، والفاتورة طبعاً في مجمل هذا الوضع لن تكون إلا اجتماعية، فقد تم تسريح ملايين العمال من كلّ فروع الإنتاج تقريباً، وقد عزّز هؤلاء جيوش المعدمين والمعوزين الذين أصبحوا عاجزين عن تأمين الحاجيات الأساسية، ولا غرابة لذلك أن يضرب الوباء أكثر في الفضاءات الطبقية المحرومة، هذا وقد رجّح عديد المنظمات الدولية مثل منظمة "أوكسفام" أن يتعزّز جيش الفقراء بزيادة نصف مليار لهذا العام كنتيجة مباشرة للوباء، والفقراء هم من يعيشون بأقلّ من دولار واحد في اليوم. وقد عرّى الوباء حقيقة الخدمات الاجتماعية وبالأخص القطاع الصحي الذي يكرّس اليوم معادلة اللامساواة أمام المرض. التي ظلت ملازمة لكلّ الأنظمة الاجتماعية الطبقية، فقد قضى وباء القرن الرابع عشر على ثلث الأوروبيين، وهم طبعاً من الفقراء، كما أن كلّ أوبئة القرن العشرين طالت أساساً هاتي الطبقات، فإن "كورونا" مثله مثل أسلافه وفيّ لنفس القاعدة الاجتماعية.
إن عالم ما بعد "الكورونا" سيطوي ما قبله في عديد المجالات وبالأخص العلاقات الدولية والتجارة العالمية وعلاقات القوى بين الصاعدين والنازلين، كما ستطال المجتمعات من جهة مكاسبها الاجتماعية ومنظوماتها السياسية والثقافية والقيمية. وما يهمنا هنا هو كيف ستكون هذه التحوّلات، هل لصالح المجتمع أم ضده؟
لا شك أن فترة صعبة تنتظر الطبقات الكادحة والشعبية، فالرأسمالية ستصرّ أكثر من أي وقت مضى على ترميم أزمتها على حسابهم، فعديد المؤسسات الرأسمالية ستنهار والعديد منها ستبقى "تقاوم" من خلال التراجع عن كلّ ما حقّقه العمال من مكاسب اجتماعية. في الجهة المقابلة لن يسكت هؤلاء على حجم التدهور الذي طال حياتهم، إن جولة جديدة من الصراع الطبقي الضاري محلياً ودولياً ستندلع، وقد بدأت تندلع في عديد البلدان رفضاً لواقع البؤس الجديد. إن هذه الأوضاع كما يمكن أن تعزّز حركة النضال الاجتماعي التقدمي للنقابات والأحزاب والحركات ذات الخلفية الاشتراكية، فإنها يمكن أن تقوّي الحركات الفاشية والشعبوية والرجعية عموماً كرد فعل على واقع متأزم. لقد أفرزت الأزمات الكبرى في تاريخنا المعاصر هذين الاتجاهين، فالحرب الكونية الأولى والثانية، وأزمة 1929 الكبرى، وحرب الخليج الأولى والثانية التي ولّدت "النظام العالمي الجديد" خلقت حركية ودينامية وردود أفعال في مستوى الأفكار والأنشطة الجماعية وساء ذات المضمون الاحتجاجي الثوري أو الاحتجاجي الرجعي، وهذا يقف على وجود عناصر وشروط أخرى متداخلة.

تونس في 01ماي 2020