لوحةُ سوريالية | " قصة قصيرة"

 

... لطالما، أطال الإنتظار أمام فيترينات المحال، كما لو رؤىً يرتقيها بعينين مشوّقتين، تسعيان لكلِّ جديدٍ عصريّ. تأخذ به الحيرةُ والحماسة، مدفوعاً بذاكرةٍ لم يتحصّل عليها بيضاء. ذاكرةٌ حبلى بالأسئلة والمعاني، منها تتسلّلُ ملاحمُ... يعتقدُ لم يقترفها، لكنّهُ، في هدأة الليلِ والسَحر، ينزع قفّازات اتزّانه، كي يبلغَ في طريق العودةِ صديقَهُ الشهيد.

لقد مضى على ذلك الجحيم، عقودٌ تعترضُ عقلَهُ وروحَه، واللحظة التالية... مجرّدُ خربشاتٍ ينحو بها فوق ملاءات الحياة، يهجسُ بتلك الأفكار المحشورة في الأسْرِ الدامي، ليس له أن يَشفى من تراجيديةِ الحياة الإفتراضية، وعلى مرمى فكرةٍ نفّاذةِ الرائحة، انبسطتْ حقولٌ من يرقاتٍ متوامضةِ التحوّلات، وبأنَّ الأصواتَ القديمةَ تنفجرُ لذاته. لمسافةٍ ما بين العتمة والضوء، وهي خيطٌ رفيع النظرات، رقيق الملمس، مشحون العاطفة والغضب، وقد استحضرَ من مبدأ الطبيعة... بأخذ عيّنةٍ من الجسد لعلاج الخلل فيه. وقال... لصور العالم، إنبسطي. كان الكون حبّةَ حياةٍ ترغب بالانفجار.

عند التقائنا، تلاشت الأزمنة والمسافات، وتداخلنا حتى بدَوْنا انعكاس المرآة؛ ولحدِّ الآن، لا أعلمُ مَن الحقيقي، ومَن الإفتراضي، لكنّا كلانا معاً قبالة الدّنيا، إذا ما جلستُ جلس، إذا مدَدْتُ يداً فعل، لعبةٌ خاضعةٌ لنزوعنا المشترك.

الحياة التي أنا فيها، ربّما تجاوزتْ ذلك التناقض الأزليّ للحياة ذاتها، بحيث توقي لإشباعِ نهم الأوراق، لإسباغ العشقِ بتحريكِ الأجرام، بهذا الإستبدال العشوائي للكائنات، ولا تأيينَ للروح والجسد، حيث وقعتُ على السَحرةِ بخطى طفل، بضحكةٍ ورثتها عن الطين الأوّلِ للخَلق، وما وقع من الكرِّ والفرِّ، التهامٌ لخلقٍ... لمخلوقاتٍ لا تُحصى، كما لو الحياة يتيمة، نُجْبِرُ فيها النفسَ بأدوارنا، نُرهِقُها، نجلدها بلا فائدة مرجوة، حيث الحكايات تُكتبُ بذاتِها، لذاتِنا، لاعتبارٍ لخصمٍ وحيدٍ هو الموت، وهو المعبرُ الوحيد إلى أمِّ العوالم، والأعوام بلغة الزّمن، اصطيادٌ للمكان، لعدمٍ يحفر لتحوّلاتٍ تستمرُّ على وتيرتها... مقبلون راحلون، لا موتَ، تتغيّرُ الأشكال، تختلف اللمسة، تمتزجُ ذاكراتُ الأجسادِ بالثرى، الأرواح باللامتناهي. أتناهى على درب الجلجلة، تلك، المُسيّجة بالأسلاك الشائكة، بلوحةٍ رُفِعَتْ كبُعْدٍ سابع، ربّما للسائرين السائحين ما بعد الميلاد؛ فأنا رحّالةُ الدّموعِ المعلّقة في عينيَّ بموقِ أبي.

هناك، عند ذلك المنعطف القديم، رجلٌ أدار ظهرَهُ للدُّنيا. منذ تلك اللحظةِ المطريةِ ما وراء الغيب، قلبٌ ممتدٌ إلى أعماق أقدارٍ احتشدت في وداعٍ يشابِهُ يداً... أحكمتْ قبضتَها على حبّةِ ما قبل الأكوان. حبَّةٌ تسعى لانفجارها مهما تنوّعتِ القصصُ، واختلفت الروايات، ثمةَ ولادةٌ شغوفةُ الترنّحِ، ساقَتْنا إليها بعد أزمنةٍ لم تكن. ونحن سلالات الماءِ... يبتكرُ، يختبرُ القويَّ والضعيف، الأعلى والأدنى، أيضاً تلك الألواح الملّغمة الوصايا. يمكن إزالةَ العناوينَ والأسماء، لأجل مقبرةٍ جماعيةٍ مُبَرّدة، يتقاسمها أصحاب النفوذ والمعالي.
هناك، في المنافي الجَهولِ روّادُ اللعنات، والصفحات في ما بعدُ بيضاء، لا شائبة تشوب المحيطات والأفلاك، وقد دهسَتْها حضاراتٌ مشوّهة. شعوب الأرض جمعاء، ملوّثو السرديات المؤسطرة. حين أتمَّ المنتدبون أنفسهم باسم الربِّ المُقدّس، كان فوق خارطة التقسيمِ مسطرةٌ ومسدّس، وباقي التفاصيل مجرّد شعوبٍ سقطت سهواً.

لأنّها المنافي فوق ظهر الغيم، ولأنّي أكتبُ عن الحياة التاليةِ والتالية، ولأنّي الغريبُ الأبديُّ المتأبّطُ قيامةَ الأرض، ولأنّهُ العقل... أمتطي بُراقَ الخيال لاستكشاف ما سيكون، ومنه... العودة إلى الواقع المفقود، وصناعة الأفكار، حوارٌ ذاتيُّ اليقين، تُقتَرَحُ الأفكار، تُطرحُ محاكاة بعناصر الخيال، وهي التعابير الإشكالية الوجودية، ولا يكون الإدراك إدراكاً دون الذكريات، كاسراً للأحاجي والألغاز، متذاكراً تلك السرديات بتفاصيلها الإنسانية، ولأنها الواقعية المُثلى، بقدرة التغيير... يتمخّضُ عنها أيضاً، تلك اللامجرّدة من الشخصانية، المُخدَّرة لحاجاتها، المسروقة بعواطفها، بعصبياتها، بوعيها... وهي الحلقة الأهم... الوعي والإدراك والخيال.

تلك القطرةُ القديمة المُعَتَّقة، تحوزُ على ماء وجودِنا... ماءٍ مسكوبٍ بدمعةِ مسحوبةٍ من انفجار الكائنات. تلك المُحَمَّلة بنشأة المجرّات، يتقافز عنها الضوء... كي نرى عناصر الزّمن بعين اليقين، نتجاذبُ فيها أحمالَ الطين... يا لطيننا، يا لَهُ من صُنعَةٍ عجائبية، طينٌ يستحيلُ المخلوقات على هيئتها، نظلُّ لنا اكتشافاً، وكلّما تعمّقنا نزدادٌ حيرةً، لأنَّا من خوابي هذه القطرة، ولأنّنا نقدر على الخطئ والصواب.

لا حيَّ في انكسار العقل، تتهاوى حصونُهُ بلا تردّدٍ مثل قنابل فراغية. وما كدتُ أفرغ من وجبة الإفطار، حتّى وقع ما لم يكن بالحسبان، بالأحرى، لطالما الأمور متروكة لشتّى الهواجس، تنالُ من الحياة الهلاوسُ وأبراج الحظّ.

بعد انهيار الأماكن، بالكاد مَن يحاول الإمساك بآخر نظرةٍ، بشيءٍ من الحطام، لكأنّ العالقين خليةٌ ما تعرّضتْ للتشظّي، سقطتْ عن جسدِ اعتمالها. أُخَمِّنُ أنّ الشّمسَ وقد انقسمت لنصفين متوازيين، أنَّ القمرَ صارَ قريباً أكثر، أنَّ النجومَ ارتسمت كعقدٍ حول جيدِ فاتنةٍ من بلادٍ لم تُكتَشفْ، أنّني في نهارٍ لاهب، سحبتُ الحواسَّ المتناثرةَ إلى زاويةٍ... لا يكترث لها المقتحمون، ذلك، النهارَ المؤرّخَ بالدّماءِ واللحم الحيِّ بلا منازع.

رأسي، وقد ارتطمتْ به آلاف الأرواح لأجل الوحدة، والسماءُ المنخفضة... انعكاسٌ طارئٌ لبلوغنا نحوها على غير المتوقّع، وما وقعَ عنها، رؤوس في مرآة الدُّنيا، وقد دَمَعَتْ شروخُها، لا تمنح جسداً رأسَهُ الأوّل. رأيتُ في ذلك الفراغ المؤلم... رأيتُ هياكلَ تتكئ إلى زاويةٍ مظلمة، رأيتُ كوكبَ الأرض ضآلاً دون المواكب، رأيتُني أًدَثِّرُ الجلودَ بنجيعها الدافئ، وكلّ ما كان يسيلُ من فوهات الغرباء، بقعٌ ترتطم بالهاربين حتّى يسكنوا عن الحركة والجريان. لوحةْ سوريالية من هذا الجِلدِ والماء.