الناصرية وأزمة التحليل (2)

لا يستطيع الفرد مهما بلغ من قدرة وجبروت، مهما بلغ من دور في لحظة تاريخية محددة، لا يستطيع خلق الأحداث، إنه يعبر عن مجموعة الظروف الموضوعية في لحظة تاريخية، لا تعبيراً هامداً، بل تعبير ناتجاً عن جدل الذاتي والموضوعي اللذان يشكلان جملة من العوامل شديدة التعقيد لكنها خاضعة للتحليل التاريخي. إن هذا الفرد هو ابن طبقة اجتماعية، وهو يستجيب للعوامل الموضوعية استجابة كجزء من طبقة اجتماعية في ظرف تاريخي ما، وبغياب هذا الظرف تسلك نفس تلك الطبقة سلوكاً مغايراً.

من هنا لم يكن تشكيل عبدالناصر لتنظيم الضباط الأحرار قراراً نابعاً من ما وراء الطبيعة أو وحياً في زمن انقطع فيه الوحي، بل كان استجابة تاريخية لمقدمات تاريخية، وصلت فيها التناقضات الاجتماعية في البلد حداً لم تتوفر للطليعة الماركسية أسباب حلها تقدمياً. كان المجتمع مأزوماً، كبار الملاك، السراي، الاحتلال والوفد غير قادرين على الحكم بالشكل القديم، مع دخول الأمريكان على الخط واستيلائهم على قيادة المعسكر الامبريالي ما وضع ضغطاً طبيعياً على الوجود الانجليزي في مصر وفي الشرق كله، ضغطاً تفاقم نتيجة ضغط شعبي بالسلاح على معسكرات الإنجليز في القناة، وعلى قيادة الوفد وعلى السراى وأحزاب الأقلية الذين أرعبتهم فكرة التقاء السلاح بالمد الشيوعي في البلد.

كانت تنظيمات الماركسيين رهينة تناقضين، التشرذم التنظيمي الناتج عن استيلاء البرجوازيين الصغار على قيادة المنظمات، وتذيل التيار الرئيسي للوفد. هناك فرضية أن استمرار الأزمة كان ليدفع نحو تجذير حركة الجماهير ودفعها بكثافة إلى شاطئ المنظمات الشيوعية وهي فرضية تدعمها حقيقة أن المخابرات المركزية الأمريكية غضت البصر عن حركة الجيش باعتبارها سوف تقطع طبيعياً الطريق على المد الشيوعي المدعوم سوفيتياً.

إذن كان الجيش هو إجابة السؤال، بالطبع يمكن طرح الكثير حول القدرات الشخصية لعبدالناصر وقدرته على المناورة والتنظيم والحشد، لكن كل تلك الصفات لا تستطيع شق مسار التاريخ لأن بنية هذا التاريخ أكثر تعقيداً وعمقاً من أن يصنعها أفراد. 

بالمثل لم يكن الإصلاح الزراعي قراراً عنترياً لعبدالناصر، بل كان استجابة حتمية لتحدي تاريخي في بلد احتجز الاستعمار تطوره واحتُجزت ثروته في أيدي كبار ملاكيه العقاريين ما أعاق أي امكانية لتطوير صناعة وطنية، وبالتالي كان تقويض الوجود الاجتماعي لكبار الملاك هو تقويض لوجود الاحتلال و قاعدة ارتكازه الاجتماعية في البلد هذا من جهة، من جهة أخرى جاء الإصلاح الزراعي الأول هزيلاً بما يتوافق تماماً مع التركيب الاجتماعي غير المتجانس لقيادة الثورة، أي للتحالف الاجتماعي الذي مثله تحرك الضباط.

على هذا المنهج وبه يمكن التأريخ للحقبة الناصرية وتحليلها علمياً باعتبار مسيرتها هي جدل الطبقات والقوى الاجتماعية متفاعلة مع ظرف اقليمي ودولي. لا باعتبار مسيرتها مجموعة القرارات الإيجابية التي قررها جمال عبدالناصر ومجموعة النتائج السلبية التي أنتجها الجميع عداه. 

إن عبدالناصر كفردٍ فاعل، جاءت استجابته بالطبع خاضعة ومتأثرة بسماته الشخصية، وجاءت ادارته للصراع الاجتماعي محصلة لمجمل التفاعل بين الظروف الموضوعية والذاتية، بين المحلي والإقليمي والدولي، وهذا لا يعني بتاتاً أي مسار ميكانيكي للتاريخ ولكنه ينفي النزعة الارادوية. إن ادارة الصراع الاجتماعي تعني العلم بقوانينه و الإلمام بفلسفة التاريخ بوصفه صراع القوى المادية. يعمل القانون الاجتماعي في بيئته، أي حين تتوفر مقدمات عمله، من هنا كان عبدالناصر، كانت سلطته التي تعبر عن كتلة طبقية، تخلق مقدمات أفضت إلى ما آلت إليه التجربة، فلا يعني إنكار وجود الصراع الطبقي أنه غير موجود فعلا، بل إن إنكاره هو شكل من أشكال الصراع الطبقي تخوضه السلطة الطبقية بغرض فرض الاستسلام الطبقي على الطبقات الشعبية وتقويض الأرض تحت أقدام نظرية الصراع، ولا يعني الاعتراف بوجود الصراع الطبقي بعد انهيار الوحدة، أن هذا الصراع خُلق من العدم، ولا يعني الاعتقاد بأنه يمكن حل الصراع الطبقي سلمياً أن هذا يعني بأن هذا ممكن فعلاً، بل كان هذا الحديث يعبر عن موقع طبقي محدد ليس من مصلحته الحديث عن حسم الصراع بالعنف لأنه يدرك أن ذلك يعني زوال المرتكز الطبقي لهذه السلطة.

إن تناول عبدالناصر الطبقة لا الفرد يفتح الباب لتفسير خط صعود وانحطاط ثورة يوليو من ثورة تحرير وطني إلى سُلطة استسلام مكشوف في غضون عقدين من قيامها.