العلاقات الصينية العربية: من "تذليل للعقبات" إلى "مستقبل مشترك

يعود تاريخ العلاقات الودية بين الأمتين الصينية والعربية إلى ما قبل الميلاد. منذ ذلك الوقت، وعلى الرغم من المساحات الشاسعة التي تفصل بين أراضي هاتين الحضارتين العريقتين، حرص الجانبان الصيني والعربي على التواصل المباشر، وبناء تبادلات قائمة على المنفعة المشتركة والاحترام المتبادل.

لذا، وعلى مدى أكثر من 2000 عام، سعى كل من الصين والعرب إلى تذليل كل العقبات التي تقف في وجه صداقتهما المتينة، فسارت على طريق الحرير القديم مئات البعثات التي عملت على تعزيز علاقات الصداقة والأخوة، فأصبحت كلمات مثل "الاحترام"، و"التعاون"، و"التطور"، و"الصداقة" بمثابة أعمدة تقوم عليها جسور التواصل بين الحضارتين الصينية والعربية. وهذا التاريخ المشرق لم يكن في مصلحة الصينيين والعرب فحسب، بل ساهم في تقدّم الحضارة البشرية كلها.
لقد شهدت العلاقات العربية الصينية تطورا مستمرا منذ أن توجه الرحالة والسفير الصيني "تشانغ تشيان" نحو الغرب، وفتح ذلك الطريق الذي عُرف باسم "طريق الحرير"، والذي ساهم في بناء علاقات صداقة قائمة على الربح المشترك والمنفعة المشتركة والتعاون المشترك بين الصين وباقي الأمم، ومنها الأمة العربية. فكان طريق الحرير ساحة للتبادل الثقافي أسهم في إغناء حضارات كل من العرب والصين وكذلك غيرهم من الحضارات. فعبر هذا الطريق انتقلت القوافل المحمّلة بكل المنتجات التجارية والثقافات والإبداعات وعلوم تلك العصور، فمثلا، استفاد العرب من الاختراعات الأربعة العظيمة الصينية، الأمر الذي ساعدهم على تطوير التقنيات وسهّل حياتهم إلى حد كبير. وبالمقابل، انتقلت العقاقير الطبية والأحجار الكريمة فضلا عن علوم الطب والرياضيات والفلك من العرب إلى الصين، الأمر الذي ساعد الجانب الصيني أيضا على تطوير علوم الطب والهندسة والملاحة البحرية.
إن كلمة "الاحترام" يمكن أن تلخص هذا التاريخ العميق من العلاقات التاريخية بين الصين والعرب. فالاحترام كلمة واسعة المعاني، وجوهرها يشير إلى "إيجاد النقاط المشتركة والحفاظ على نقاط الاختلاف" أو بمعنى آخر "إيجاد أرضية مشتركة مع تنحية الخلافات جانبا". وبناء على ذلك، يمكن إيجاد الكثير من النقاط المشتركة بين الصين والعرب، ومن تلك النقاط مثلا أن الصين دولة نامية تنتمي إلى العالم الثالث وهي بذلك تقترب من أن تشبه الدول العربية، هذا بالإضافة إلى أنّ كلا الجانبين الصيني والعربي قد تعرضا لهيمنة واستعمار من القوى الكبرى لفترة طويلة من الزمن، وكلاهما واجه ذلك الواقع المرير، وقدم التضحيات الكبرى من أجل تحرير الأرض واسترجاع ما استلبه الاستعمار. فعندما كانت الصين تواجه الاستعمار الغربي والاحتلال الياباني، كانت الدول العربية أيضا تقاتل من أجل الاستقلال. لذا، فإنّ الصين تتضامن اليوم مع الشعوب العربية وتقف إلى جانبها في الحصول على حقوقها المشروعة ، خاصة وأنها تعرف تماما معنى الظلم والاستغلال والاحتلال، فقد عانت كثيرا في تاريخها. ووفقا لهذه التجربة التاريخية المتشابهة إلى حد ما والمليئة بالتضامن المشترك، من الممكن معرفة السبب الذي يدفع كلا من الصين والدول العربية لتقديم الدعم المشترك في خيارات كل منهما، هذا الإضافة إلى الوقوف إلى جانب بعضهما البعض في المحافل الدولية، ودعم القضية المحقة لكل طرف، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية، والتأكيد على الحق في اختيار طريق التنمية الذي يناسب خصوصياتهما الوطنية.
في عام 1949م، تأسست جمهورية الصين الشعبية وصعدت على الساحة الدولية بهيئة جديدة، وظلت تدعم وتؤيد القضايا العادلة للعرب وساهمت في ذات الوقت في استقلال البلاد العربية من الاستعمار، حدث كل ذلك في الوقت الذي كانت فيه الصين فقيرة وضعيفة، إلا أنها كانت قوية بمبادئها التي تدعوها إلى الوقوف إلى جانب الشعوب المظلومة والمضطهدة. في عام 1971م، وقفت معظم الدول العربية مع جمهورية الصين الشعبية في الدورة الـ 26 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تم التصويت على القرار رقم 2758، الذي أدى إلى استعادة جمهورية الصين الشعبية لحقوقها كافة وعضويتها الكاملة في الأمم المتحدة. والصين لا تنسى أبدا أصدقائها العرب الذين وقفوا إلى جانبها. كما أنها تتذكر بكل امتنان دعم الجزائر التي شاركت في طرح الاقتراح، وأيضا تأييد معظم الدول العربية كمصر والعراق وليبيا وغيرها في صوابيه القرار. هذا التفاعل الإيجابي والدعم المشترك للقضية المحقة للطرفين لم يزل مستمرا حتى يومنا هذا. فعلى الرغم من الضغوطات الكبيرة التي مارستها القوى الغربية، إلا أن العرب لا زالوا يقفون إلى جانب القضية المحقة للصين، وكان آخر تلك المحطات عندما دعمت معظم الدول العربية سياسة الصين في شينجيانغ. اليوم، تتمسك الصين والدول العربية بمبادئ التعايش السلمي الخمسة، وتحترم سيادة الدول العربية وحقوقها ولا تتدخل في شؤونها الداخلية. كما ستحافظ الصين على الطرق السلمية في التنمية وتدعم الدول الواقعة على طول الحزام والطريق في حماية حقوقها العادلة ومصالحها الشرعية، وخير مثال على ذلك هو دعم الصين بقوة للمملكة العربية السعودية الدولة الكبيرة الواقعة على طول الحزام والطريق، إذ تساهم الصين في حماية سيادتها الوطنية، كما تدعم أمنها واستقرارها، وتعارض بحزم أي تدخل في الشؤون الداخلية للسعودية. ويمكن القول إن هذا التعامل الودي بين الصين والدول العربية يقارب "رد الجميل بالجميل"، لا سيما وأن الصين تحترم الدول العربية كافة وتساعدها بسلوك طريق التنمية السلمي، وفي الوقت ذاته فإنّ معظم الدول العربية تقدر هذا الاحترام وتلك المساعدة.
عام 2013م، دعا الرئيس الصيني "شي جين بينغ" الدول العربية إلى المشاركة في بناء "الحزام والطريق"، وتُعتبر هذه الدعوة نصرا تاريخيا للتبادلات بين الجانبين والتعاون بينهما. وفي عام 2018م، أعلن الرئيس الصيني أنه يجب على الجانبين الصيني والعربي أن يُقيما شراكة إستراتيجية حقيقية بينهما، ودعا إلى بناء كل من رابطة المصير المشترك بين الصين والدول العربية ورابطة المصير المشترك للبشرية معا، الأمر الذي حظي باستجابة حارة من قبل الدول العربية خاصة وأن الجانبين يتطلعان معا إلى التقدم والتمسك بالفرص ومواجهة التحديات سويا. وبفضل الجهود الدؤوبة المشتركة بين الجانبين الصيني والعربي، شهدت الشراكة الإستراتيجية مستوى أعلى سيلعب دورا أكبر في العلاقات بين الطرفين. على سبيل المثال، تركت جائحة كوفيد-19 على عالمنا آثارا شديدة، وألحقت بالبشرية خسائر فادحة متمثلة في ركود الاقتصاد وانحباس مسيرة العولمة. ولسوء الحظ، لم تسلم الصين والدول العربية من كارثة الجائحة، غير أن رابطة المصير المشترك بين الصين والدول العربية جسدت قوتها في الحفاظ على الاستقرار. فتمسكت كلّ من الصين والدول العربية بالعناية المشتركة والمساعدات المتبادلة، وقاومتا الوباء يدا بيد، فقدمت الصين للدول العربية اللقاحات ومواد الوقاية من الوباء باستخدام السلسلة الإنتاجية وسلسلة التوريد الكاملة، وبالمقابل، قدمت الدول العربية للصين الدعم المادي والمعنوي، حيث كان الملك السعودي أول زعيم أجنبي يتصل بالرئيس الصيني شي للتعبير عن دعمه للصين في مقاومة الجائحة، وكانت الإمارات أول دولة قبلت اختبار المرحلة الثالثة للقاحات الصينية في الخارج... وهو ما يعني أنّ المساعدات متبادلة بين الجانبين.
يقول المثل الصيني "لا يُعرف الأصدقاء إلا عند الشدائد"، وتُمثل العلاقات بين الصين والعالم العربي علاقة صداقة يحرص أحدهما على مصالح الآخر بما يعود بالمنفعة للطرفين، ويمكن القول إن رابطة المصير المشترك بين الصين والدول العربية لعبت دورا مهما جدا في تنسيق الجهود وتعزيز التبادلات، خاصة في وقت الأزمات، مما أسهم في منفعة كبيرة للشعبين الصيني والعربي.
إنّ تاريخ العلاقات الصينية العربية هو كتاب بصفحات مشرقة لا يمكن حصرها. ومن هذا الكتاب، يمكن للجيل الحالي كما الأجيال القادمة أن تتعلم الكثير. فأولا يمكن أن نُدرك إمكانية تفاعل الحضارات بكل سلام ووئام، وأن تُسهم هذه الحضارات من خلال التبادلات السلمية في تطوير نفسها وغيرها من الحضارات المختلفة. إن السلام والمحبة والصداقة والتعاون هي المبادئ التي يجب أن تقوم عليها التبادلات بين الأمم. وهذه تحديدا هي المبادئ التي قامت عليها التبادلات بين الصين والعرب. وثانيا، ممكن أن نتعلم أن الحروب والصراعات والكراهية بين الأمم لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الخراب والموت والتخلف. لذا، يجب علينا أن نسعى دائما لمد الجسور للتبادل والتعاون، ونرفض أفكار التفوق الحضاري.
فإن كان التاريخ مشرقا، فإننا يجب أن نعمل على بناء مستقبل أكثر إشراقا. فكما أسهم طريق الحرير القديم في صناعة تلك العلاقات الودية الرائعة، فإننا على يقين أن الحزام والطريق في القرن الـ 21 سيكون وسيلة لبناء مجتمع المصير المشترك الصيني العربي، لا بل سيكون طريقنا لبناء مجتمع المصير المشترك للبشرية جمعاء.

  • العدد رقم: 411
`


 (Qian Da Rong) تشان دا رونغ