حافرون في التيه

... الحافرون في التيه، في الغياب والوحشة، أولئك الذين يجهلون وجوههم في المرآة، الذين، هم نحن، حٌرّاس تماثيل الطين والقش، ولأن الوجع في الأدب، في المأكل والمشرب، في السلامة والسياسة، فيالحياة، تلك، التي بيتنا الآنيّ، التي، نجيئها كالطيور المهاجرة، وفي الرواح والإياب، ثمة من يتبادل الضيافة، التي، أجملها عند الفقراء الكرماء، أولئك الحالمون بأن الحلمَ استمرار والألم، بأن الأمل لا يفارق الإحساس، بأن يظلّون هم في عين اليقين والبصيرة.

... ليس هناك حين نلتقي أوجاع الحياة، ليست بالنهاية، إنما البداية لحياةٍ لا تُقاس بالزّمن، لا تؤين، ليست دروبنا غير حدقات الليل، وتلك الأعماق في غزالة النهار، ونحن.. " كٌلٌّ وجوديّْ أبديّ "، وما يحضر على رموش اللحاظ، ليس غير الهوى، وإن أضنى النوى، وقضَّ مضاجع العاشقين، شبَّ الفؤاد بنار الجوى، وهوى قلبُ شجاعٍ في الروح، وطوال الأسفار لأعمار، نكتب بحبٍّ بحبر اليقين...
    مدَداً صوب القلب برحمة الكلمة، غسقاً يفتح القلبَ على السابلة، مطراً كما لو يلتجئ إلى مواقع الدفء، وتلك الدّموع في عين الشمس، فوق ظهر راحلة المناديل، ومَن يشتاق يُريق ندى الهجيع، وكلّ عِقدٍ فريدٍ يكون من دمٍ ولحمٍ وروح، ويكون جراحاً على جيد الزّمان، قلباً عاشقاً لا يستكين..
   أذهب في عين الطفولة، أُغمِضُ تينكَ العينين، وأنّى أكون، أصير بكلمةٍ تفتح خوابي التراب، والمشاعر هادية النفس، تُرشِدُنا إلينا، وكلّ كلمةٍ وبسمةٍ ونظرةٍ هدية، كلّ دمعةِ حُبٍّ وتوجّدٍ سبيلُ قلوبنا، والنوايا غيوم بيضاء الجوهر، تمنحنا كلَّ الحب...

... لا تمُتْ داخل روحك، واعمل على تجديد الحواس، واكسر أغلال المنافي، فتنقشع العوالم بألف وردةٍ وصورة، بأسطورة، وأن تظلَّ حيّاً، يعني انتصاركَ على الموت في الحياة، حذاؤك، الذي يرمي وجهَ الاستبداد، الذي يلتقط اللحظة، ولي منذ عقودٍ طوالٍ أتراكضها وظلّي، وتلك العشيات العصيان، رفاق الخطوة الأولى والسلاح، تلك الشوارع المختومة الخطى، أولادها يزفّون مطلع الشمس، بوجوهٍ تستيقظ هذا الصباح ونظرات، وفي ما انتظر، ثمة مجهولون يرشقون الندى، وكلّما أقترب، يزدادُ الوقتُ انحساراً، انكساراً للظلال، وبوسعي أن آمل، أن أحلم، أن أُخرِسَ الشيطانَ والسجّان، وذاك السلطان المتأهب دوماً للدّماء، آهٍ يا سماء لو تُعرّجين نحونا ببسمة، بكلمة، برؤيا، بكؤوسٍ ومائدة، لو تحملين عنّا أعباءنا الثقيلة، وقتلى القبيلة، فهي لأجلك كانت يا سماء، وعلى الأرض حياتنا تتحوّل إلى تراب، نشاهدُنا كيف نموت، كيف نعرى ونفنى، فيا أرض لست حُرّة، ثمة امرأةٌ تعرّت من خبزها وملحها، من سأمِها وضجرها، من حِبرها، من روح مَن خدعها...

... سمعتُ أنفاسي في المجرّات البعيدة، وركّاب القطارات يتثاءبون، يتساءلون عن الطريقة التي اتبّعتها، عن لون شعري وثيابي، عمّن انحنى في مرآتي، ولمّا أزل في صلاتي الأولى للفتوحات، فعرّجت بماسحي الأحذية، ببائعي الكعك، بالمعَذّبين، بالمقهورين، بالرهبان والصلبان، بحريم السلطان والخصيان، بالذين خلف القضبان، ببائعات الهوى، وقلبي في زفيف النبض، يقول عشقاُ، رفضاً لغاصبٍ وقاتل، ودمي يساجلُ النيران، تلك التراتيل والقداديس، المسامير والعير، الشِّعرَ والدّمعَ، الراحلين في الروح بوردة، بشمعةٍ برزخٍ كأنّما، كأنّما أمي هنا على وعدها وعهدها، و جرحي يتلو وصايا أبي، ذكرى أبيٍّ فاته الكرى، فاتني إلى موعده الأبدي، وأنّى كنتُ وكانوا نظلُّ معاً، غداً لو أنا تعِبٌ، عتبٌ وسفر، غضبْ.. وتلك المآذن تلوك الكلمات، تجترّها لعبيد الرمال، تلك الوجوه الجويّة، حفناتٌ غريبة برقائق حاسوب، برقائق ذرة ونكهات متعدّدة، ثمة مجهولون يرشقون الندى بنظرات، صلوات تُقام خارج المكان، في هذا الزمان.. نحن عراة بلا مكان، من هذا النسغ إنسان هذي  الأوطان...

... كلُّ الذي في العينين.. شمسٌ مشوبةٌ بالدفء والأمل، الكلمات المتمازجة والحلم.. حبٌّ دافئ، الأسماء بحروفها.. مساراتٌ دافئة الوصال، جمالٌ وكمالٌ روحيّ، وتلك اللمسات الساحرة.. إنسانية مميزة، دفّاقة العطاء...
   لا أبوح بمكنوناتي، أبوح بروحي، بجسدي، بنفسي، بكليّة وحدتي، وحدة وجودي.. الطبيعية الإجتماعية الإنسانية، وتلك التفاصيل تحمل سرديةَ نصوصها، نقل الكلمة بطقوس العيش بذاكرةٍ حيّة...
   عواطفُنا كما لو حروفٌ مبعثرة، نجمعها بحرفِ كلِّ يوم، وإذا ما اجتمعت، أدهشتنا كيف نكون.. هذا الشّوق والحنين، ومَن يبحث عن الحبّ.. فليكن قلبُ كلٍّ منّا مرآته، نورَهُ بين الناس..
   وانا في جمرها القديم، كان الرمادُ يرسم وجوهاً وأسماءً بقلم رصاص، حتٌى صار الزّمنُ كتاباً مفتوحاً لكلّ قارئٍ وعابر سبيل، وكان الرصاص يوسم جبين الممنوعين من الصرف، فانصرفنا إلى أنوثةٍ تضمن رجولتنا، هاك، نمت الأحاجي ولا يمكن نكرانها...

... ضمن دائرةِ الوحدة، ثمة خصوصيات مختلفة، أهواءٌ، آراءٌ وأنواء، وكان مَن ينقل طبيعته إلى الأمصار، وحامل الضوء يبتلع العتمة، تُرى كيف انقلبتِ الأدوار، وصار المهاجرون على غصن عصفور، والسبايا عن تلك الفتاوى، والدّم غاية، والبلاد أقوام ليست متعارفة، ولا مُتحابّة، والشكل البيضاوي للقلب، محاولة أخيرة لفتح دائرة القفص...
   كان يفترض أنّ الحراثة ثنائية ذاتية، وكلّ الأدوات الأخرى.. التباس للغنائم، وما بين أنماط المعرفة والسيطرة.. استبدادٌ واستعبادٌ مديدا الحقب، وكلّما تطاول الخيال، وبلغ أجواز الفضاء، بلغ الوأد العقلَ كما الروح، هاك، عوالمنا مجرّد زومبيين، لطالما، لأجل فيلمٍ طويل، يحتاج المخرج لكومبارس..
   كانت تفكُّ عنها أغلالاً ذكورية بالغة التعقيد، ولا زالت منذ تلك القرون والدّهور حتّى لحظتها، تعاند الأغلال، تعمل على تظهير العنف والقهر كي تكون غداً.. كما هي أجمل مخلوق، وقد واجهت عريها من أعلى السماء حتى أدنى الأرض، وقد حمل آدم شيطانه وإن بندم، فلا نجهل هُنانا كم عدد الشياطين، فهم وجموع الأنس سواء، وحواء ما بينهم.. تخصف عليهم بأنوثتها فلا يرتدعون، لا يرعوون...