ذكرياتي مع ميكيس ثيودوراكيس 1

مهما كتبت عنه لن أفيه حقه، هوالصديق الرفيق الفنان اليوناني العالمي، دائم الحضور والثورة بكل ما يتعلق بمقاومة الظلم والظالمين في كل بقاع الارض. 

كان الى جانبنا في نضالنا ضد العدو الصهيوني والى جانب شعب فلسطين في نضاله المشروع. قاوم في موقفه السياسي الجريء كما في موسيقاه، فأبدع في الحالتين. هو الذي كان لحن الحياة و الثورة ينبض في عروقه، فترجمه موسيقى جميلة لا تموت من موسيقى "زوربا"، "كانتو جنرال" والقائمة لا تنتهي. 

رحل ميكيس ثيودوراكيس عن عمر ناهز 96 عاماً، حيث شغل العالم خبر موته، وهو الذي شغله حياً من خلال روائعه الموسيقية في مواجهة الاحتلال الفاشي الايطالي لوطنه ومن بعده في مواجهة الاحتلال الالماني ومن ثم الحكم العسكري اليوناني. تعرض للاعتقال والتعذيب لأكثر من مرة وآخرها كان اعتقاله وسجنه ومنع كل اعماله في فترة حكم الجنرلات اليونان لكنهم اجبروا على اطلاق سراحه في شهر اب 1968 تحت ضغط الحملة العالمية للافراج عنه وتم ترحيله الى فرنسا.

كان عاقد العزم على مقاومة الحكم العسكري حتى اسقاطه، فجاب العلم مقدماً حفلاته الموسيقية الحاشدة من اجل الديمقراطية في اليونان، حتى انهيار النظام العسكري سقوطه عام 1974.

زيارة بيروت شباط 1982

كان هدف الزيارة الى بيروت هو التضامن مع الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الوطنية، وكذلك مع الشعب الفلسطيني ومن اجل تقديم النشيد الوطني الفلسطيني الذي ألّف موسيقاه. كانت ترتيبات الزيارة تتم معي كممثل للحزب وللحركة الوطنية في اليونان ومع الحزب الشيوعي اليوناني ممثلاً ب "جورج بابابترو" عضو اللجنة المركزية وعضو لجنة العلاقات الخارجية، ومع ثيودوراكيس. وتم الاتفاق على تقديم حفلة موسيقية على مسرح قصر البيكاديلي تحييها المغنية اليونانية ماريا فارندوري ذات الشهرة العالمية وعدد من المغنين الآخرين وفرقة موسيقية يونانية تضم العديد من الموسيقيين بقيادة الموسيقار ميكس ثيودوراكيس.

كان الوزير ميشال اده وزيراً الثقافة في حينه مصراً ان تكون الوزارة هي من تستضيف ثيودوراكيس والفرقة اثناء إقامتهم في بيروت، وهذا ما حصل، حيث اقام الجميع في فندق السمرلند الشهير.

كانت زيارة سياسية - فنية من اهم محطاتها جولة لثيودوراكيس رافقه فيها الرفيق كريم مروة على بعض المواقع العسكرية للحزب في حينه قرب قلعة الشقيف لتعذر الوصول اليها، فزرنا مواقع في يحمر والبلدات المجاورة. وفي طريق العودة، كان لنا لقاء مع قيادة القوات المشتركة في الجنوب، في صيدا، بحضور القائد الميداني الفلسطيني آنذاك "الحاج اسماعيل" حيث اتحفنا بخطاب ثوري ناري نال استحسان ثيودوراكيس وإعجابه. 

المحطة الثانية كانت زيارة المجلس الوطني القلسطيني حيث تسلم ياسر عرفات النشيد الوطني الفلسطيني وسمعناه جميعاً للمرة الاولى من خلال شريط تسجيل، حيث وقف اعضاء المجلس مصفقين لدقائق، كما تم عقد العديد من اللقاءت السياسية والفنية والثقافية.

حفلة البيكادلي وخطف جورج حاوي 

الاهم في الجانب الفني كانت حفلة البيكادلي المقررة مساء 26 شباط 1982، لكن وقبل الحفلة بساعات تبلغنا بأن الرفيق الشهيد جورج حاوي كان على متن طائرة كويتية جرى خطفها على مدرج مطار بيروت. اجتمعنا مع الرفيق بابابترو لمناقشة الموضوع، وتشارونا: هل نخبره قبل الحفلة ام بعدها؟ كنا نخاف ردة فعله من إلغاء او تاجيل، وإن لم نفعل ممكن ان يكون جو الحضور سلبياً، خاصة وان الحزب دخل في حالة استنفار قصوى.

اخيراً جلسنا معه قبل بدء الحفلة بقليل وبعد اتضاح الصورة جزئياً لنا بأن الرفيق جورج لم يكن المستهدف، إنما هي عملية كانت تطالب بمعرفة مصير الامام موسى الصدر، اخبرناه وكانت ردة فعله كما توقعنا: نهض من مقعده طالباً الغاء الحفلة واحضار سيارة للذهاب الى المطار لمفاوضة الخاطفين، وبعد أخذ ورد ونقاش طويل، قلنا له "بعد انتهاء الحفلة تذهب الى المطار" فوافق على مضض.

كانت الحفلة مميزة بكل المقاييس اتحفنا بموسيقى واغاني رائعة وزاد من روعتها اداء ماريا وصوتها وكذلك اداء ثيودوراكيس واقفا بقامته المديدة محركاً ذراعيه ليقود الموسيقيين في مشهد رائع متناغم جميل. كان الجمهور في غاية الانسجام رغم الظروف التي نمر بها، خاصة السيارات المفخخة التي انفجرت في المنطقة في اليوم السابق اثناء ذهابنا الى البيكادلي للتمرين مما ادى الى حالة خوف شديد عند ماريا منعها من الغناء في حينه.

عود على بدء، مع ثيودوراكيس، انتهت الحفلة وطلب السيارة، عندها اخبرناه بالمستجدات وبأن جورج لم يعد مخطوفاً بل هو كان من رفض مغادرة الطائرة قبل اطلاق سراح جميع من كانوا على متنها وهو باق هناك كمفاوض، وان وزير الثقافة اتفق معنا على العشاء سوية فمن المعيب ان يغادر وان لا فائدة من مغادرته. اقتنع اخيراً وجلسنا الى مائدة العشاء مع الوزير ميشال اده وبحضور الرفيق كريم مروة وبابترو وكان جلسة ممتعة.

قبل مغادرته الى غرفته قال لي "لا يهمني الوقت عند انتهاء العملية ايقظني واخبرني" وهذا ما حصل. فعند الساعة الثانية بعد منتصف الليل وبينما كنت مع الرفاق من المرافقة والحماية (وبعد وليمة دسمة كانوا قد طلبوها من الفندق و بعد سؤالي للوزير أن يكونوا جزءاً من عزيمة وزارة الثقافة) جاء الخبر عبر الجهاز بأن الرفيق جورج اصبح في مركز الحزب. ذهبت الى "ميكي" وايقظته واخبرته، ففرح وطلب مني لقاء جورج في الصباح فقلت له بالتاكيد، حيث كان الرفيق جورج قد أتى على متن تلك الطائرة للوصول قبل الحفلة وحضورها.

ذهبنا صباحاً الى مركز الحزب والتقى بجورج وعدد من قيادات الحزب، وفي اليوم التالي غادر مع الفرقة الى اليونان. وبعد ستة اشهر واثناء حصار بيروت عاد في محاولة لدخول بيروت والبقاء فيها وهذا ما سأتحدث عنه في الجزء الثاني من المقالة.

فادي نبوت

عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني