حتّى تفقسَ تلك الغيمات ..!!

كيف حروفُ أسمائنا تُشكّلُنا ..؟ كيف نبدأ رسمها  ..؟ كيف نستعيرُ قطراتِ الندى عن الطلول .. كي تُلاعبَ ما انتبذَ عن الهمول ..؟

إنّها السّاعة المُرتَقبة. وهو في رواحٍ ومجيء، يتداخل والوقتَ حتّى تنفذَ الروائحُ تحت جِلدِ الوقت، ثمّ يروح استعراضاً لحاشيات الأفكار، وقد علّقَ فوق فحمة الوقتِ ريشةً صفراءَ اللون، ترمز للشمس، لعَبَّادِها، تتناثر بذورُهُ في تكوّر النهار في الليل  .. والليل في النهار، حتّى إذا أينعتْ، شاطرَ الغيمات ما عصيَ عليه منذ أوّلِ صرخةٍ له في الحياة.
يعبرُها تلك الفراغات الهوائية، وأنّهُ مُذْ ولِدَ كبيراً، طاعناً في الهموم، ساحباً من ذاكرة الضباب تموّهات الزجاج، تعرُّجات الأضواء، وبعض الأفكار يمزجها بخليطٍ من روائح الهند والسند وغابات العالم. ولأنهُ من تلك الشواردِ، يعودُها مزداناً بوجوه المعارك؛ وقد بلغت عقودَهُ، يحاول لو يعقلها لأولئك عميان العقول والنفوس.

وحين يُدركُ الملاحمَ التي قرأ عنها ، يحملُ على أرواحهِ هناك .. كيف تتقامصُ الوجعَ، والخدعة الكبرى .. الممجوجة عن المُختارين، تصير لاغيةً للوقائع ومُحرِّفةً لبوح الدّماء. في محرقتهِ الوجوديّة .. عبثٌ غيبيٌّ غويُّ توسُّلاتِ المُعدَمين، والليالي تنسج، تتغوّلُ في الكيانات المغزولة ممّا ضمّتِ المجلداتُ، من أفكارٍ أصابها العماءُ والخَصاء، من اعتوراتٍ مصحوبةٍ باعترافاتٍ تتنكّرُ لملامح السماء.

حين يُهرعُ إلى صومعةِ البقرة المقدّسة، يدرأ خيرُها الجواب عن الحيرة. حين يقف أمام تمثال بوذا، يغلب عليه كيف يزواجون أنساقَ البشر في بوتقة إنسانيتهم. حين يلتقي بمريدين كونفوشيوس، يتذاوب في فلسفة الحياة. حين يقع على قبائل الآلهة في الأساطير، يغترف شِربةَ وعيٍّ لعقله. حين يهيم محترقاً غريباً في بلاد الديانات السماوية، لا ينقصه فيها كيف يموت أمام المتآلهين، كيفما ولّى وجهاً .. لا ملامحَ لوجهه، كيفما وسّدَ رأساً .. لا أحلامَ لليله، كيفما فتحَ فماً لما يسدُّ به رمَقاً .. كمن يلحس من مِبردِ القهر، كيفما مدَّ يداً للخالق .. بُتِرَتْ باسم الخالق ..!!
*
حين نُعلِنُ الخروجَ علينا .. تبدأ حكايتُنا الوجوديّة. وبأنَّ ثمةَ عوالمَ تنتظرنا، عوالم كنّا فيها بكلِّ ما نحن عليه معشر البشر، ولأنّها ذلك المكين في المكان، ندركُ ماهيتها في ما بعد، نتكئ على ذكرياتنا فيها، لا يحدث أن تكونَ في غير مكانٍ وزمانٍ آخرين، لعبة الزمن المُفَضّلة، لا نكون حينها بهاتي الذائقة، لكنّا نعودُها كي نغرقَ في اكتشافِنا لنا، لحيواتٍ انتقلت، لجمالياتٍ نحاول اكتسابها لهذا الزمن الآخر، لحكاياتٍ نحاول جمعها، ربّما لكسر حلقات التغارُبِ اللاإرادي، في وهاد هذا الجنون التراجيدي، تطبيعٌ وعرُ المسالك.

أذهبُ نازعاً عن الأسلاك الشائكةِ بعض نِثارٍ من لحمٍ ودمِ كلماتٍ وأفكار، مشاعرَ علِقتْ في مخالبها وبراثنها، وفي حبكة الإضطراب خروجٌ على المألوف، عزفٌ على وترِ الحاجةِ القاسيّةِ الصعبةِ اللاإنسانية. لذا، أُعمِلُ يقيني، وجعي، ألمي نبشاً لسرديةٍ كلّما أشعرُ بتخفُّفي منها، تفتح عليَّ بما لا يُطاق. سرديةٌ طليةُ الملامحِ والقسَماتِ .. وحادّةٌ في آن، أفتعل أنماطها بمزاجٍ صرفٍ خالي الإعتوار، ولأنها نزوعي لتلك الغرابات الكاملة الأدوار، أنفخُ في ضباب تكاثفها، وتلك السريعة الذوبان، أضعها فوق نار الجليد .. حتّى تفقسَ بعض غيماتٍ انتظرتْ طويلاً، عنها أحمالُ الأمطارِ والنملِ والفراش، عنها رمادٌ يرتعش بين أدنى صوتٍ لجرحٍ .. وأبعدَ نظرةٍ في قلبِ في سمائه البعيدة.

تلك، نحوها تلفّعتُ بشَغافٍ قمريِّ الليلة، حين شقَّ الفجرُ الهضابَ والتلال، كانتِ المطارحُ أشبهَ بهوامٍ بعيدٍ بعيد، نُقاطٌ سوداءُ تتراقص خلف العيون، ولأنّها مآقي التوجُّد والمآسي، أغلقتُ عليها الذاكرةَ .. هاتي اللحظة الطويلة الأنواء والزمهرير، وأقمتُ لها فزّاعاتِ الحقول، لرُبَّ تقيها من تلك الطيور الجارحة. تحت المنامات خيوطٌ تتشابك بغزارةٍ، كأنّما تقتاتُ من الوجعِ لوجعٍ نلوذُ بهِ .. لا ينتهي، لا يقطعُ مع الفصول، ولي بين أشلائها رسوماتُ الأطفال .. خيالاتُهم تطول وتقصر في استعراضٍ للشمس، وعند حجر الروح شواهد إهليليجية التكوين، تنبعث عنها رائحةٌ نفّاذةُ وقّادةُ المشاعر، وفكرة مشغولة في الجينات منذ أحاديثَ تتواترُ في المهود، أصغي لدرجات المنبر، على وقْعِ أقدامِ خلفٍ عن سلف، لا أحدَ يحفظ غير محرمةٍ مبلّلةٍ باللون الأحمر. المريدون، يزدادون تشبُّثاً بأقوالٍ اختلط فيها السُّمُ بالعسل، الغثُّ بالسمين؛ فتساقطَ عن شجرة الحياة ما لا يُحصى.

في غرفةٍ سابحةٍ بنجيع السكاكين، نحيبٌ يشخبُ تارةً، وطوراً يُظَنُّ لأُناسٍ يظلّون يُذبحون. في وقتٍ آخرٍ مُستقطعٍ من ابتساماتٍ بُنيِّةٍ بطعم القهوة، رأيتها، على وجهها قبالة الشمس الأخيرة لآخر نهارٍ عالقٍ في كفّها، لمرآةٍ في يدها الأخرى مزيّنةٍ بصور أطفالها. أُمّي، حين صرختْ في حُلُمِ يقظتها، رُحنا في النيران .. نركض جامدين، وكلّ ما كان ينزلق بقسوّةٍ، حتّى الأصباح والأماسي اندلقت في دِلاءِ زمنٍ جائعٍ شَرِهٍ، لا يشبع، لا يكِلُّ .. نقومُ فيه مُذخَرِّينَ بالتوتر والقهر والغضب.

أشعرُ، لا أغفو كي أستيقظَ، ثمة أرقٌ ما فوق حشود الفراغ، ثمة ملاعبُ الزمنِ كيف تُحْتَضَرُ، الذين كَنَزوا من أرجوانها، جادتْ بهم للدّنيا، كما لو تعرف متى يحين الفِطام. لكِنَّا، نحن أطفالَها، لا يُعْتِقُنا التراب، والذكريات المُعَتَّقةُ تتغامقُ ضحكاتُنا هناك. أظلُّ عاقداً عزيمتي لتلك الأدعيةِ البيضاء، أنوارٌ تصدر من روحها وقلبها، من ثغرِ الرضى؛ فتتهاوى الأحزان على أوراقٍ.. أجمعها لرؤىً تُرَتِّلُها كائناتٌ سوف تفكُّ شيفرتَها، لسيرورةٍ مزجاةِ الرّغبة، حول ولائمها مناقيرُ كثبانيةُ الضجر، روّادُ المعاقل السياحية، أروقةٌ وهي تُحاكي تلك الأيامَ المجرورة المسحولة، الممنوعة عن الصرف، ثمة جآنٌ لا ينصرفون عن البكاء.