مرصد الأزمة: الدعم الحالي لاستيراد المواد الاساسية ينازع بين الشعبوية وغياب الرؤية

 

يحتل موضوع الغاء البرنامج الذي أطلقه مصرف لبنان في خريف 2019 لتنظيم تمويل استيراد مواد اساسية كالمحروقات والدواء والطحين ولاحقاً سلة غذائية حيزاً واسعاً من النقاشات. هذا البرنامج الذي شكل نوعاً من انواع الدعم بعد التدهور الكبير في قيمة الليرة اللبنانية أصبح يستنزف موارد المصرف المركزي، وهي في شح شديد. ومع غياب الوضوح من قبل المصرف وكذلك وزارة المالية فيما يتعلق بهذا الدعم والتوجهات المستقبلية لذلك، برز كثير من الارتباك نحاول هنا توضيح 5 نقاط اساسية مرتبطة بذلك:

اولاً، النهج الملتبس لهذا الدعم

ما أطلقه مصرف لبنان في خريف 2019 وثم توسيعه في الربيع الماضي هو نهج لدعم الاستيراد لحماية المستهلكين من التأثير المهول لانهيار الليرة لكن فيه كثير من اللبس. فالدعم عادة ما يتم عبر مالية الدولة وبغرض حماية الفئات الاكثر فقراً او ضعفاً في المجتمع بغرض حمايتها من تقلبات الاسعار العالمية (الفيول مثلاً) او لتأمين اساسيات الغذاء كالقمح والطحين. وإذا حصل ان تدخل المصرف المركزي في سياسات الدعم فعادة في الاتجاه المعاكس حيث يدعم الانتاج المحلي والتصدير. اذن نحن الان امام دعم لاستيراد واستهلاك مواد اساسية لكن على ما يبدو ستكون مصادره ما تبقى من اموال المودعين وليس عبر مالية الدولة ومواردها الضريبية، وفي ذلك التباس كبير.

ثانياً، الاشكالية الاساس في الدعم هي الفيول

ما برح دعم استيراد الفيول هو الاشكالية الاساس في موضوع الدعم في لبنان خاصة لتوليد الكهرباء، فمنذ أكثر من 20 عاماً تتلقى شركة كهرباء لبنان تحويلات وسلف لتغطية عجزها وهدرها يقدرها البعض بـ 40 مليار دولار حيث وصلت كلفة الدعم هذا في بعض السنوات الى ما يعادل 7% من الناتج المحلي الاجمالي وهي نسبة تقارب الدول المنتجة للنفط حسب تقرير صادر عن وزارة البيئة. مع التأزم الاقتصادي والمالي في خريف 2019 نقلت المسؤولية الكبرى لدعم الفيول الى المصرف المركزي. تشير احصاءات وزارة المالية ان استيراد الفيول هذا العام هو بقيمة 1،28 مليار دولار، وهنا إذا احتسبنا الفارق بين السعر الرسمي (1500 ليرة للدولار) وسعر السوق (7500) يصبح الفرق الذي يؤمنه مصرف لبنان لاستيراد الفيول هو بحدود 7,668 مليار ليرة لبنانية.

ثالثاً، غياب العدالة في نهج الدعم الحالي

يفيد هذا النهج من الدعم، خاصة المحروقات، الفئات الميسورة بشكل أكبر حيث تشير الدراسات ان الفئات الاغنى في المجتمع تستفيد بين 12 و27 مرة أكثر من الفئات الاكثر فقرا في عملية دعم البنزين والغاز. كما تشير دراسات صندوق النقد الدولي ان كلفة دولار واحد لدعم الفئات الاكثر فقرا عبر دعم البنزين تكلف فعلياً 14 دولاراً لان الدعم هذا غير مستهدف لهذه الفئات حصراً.

رابعاً، لا بد من المقايضة Trade-offs

لا يمكن لهذا النوع من الدعم ان يكون مستداماً، وان كانت حاجته ملحة في فترة معينة من الازمة العميقة، لكن ادى غياب الرؤية عند المسؤولين وعدم وجود خارطة طريق الى تفاقم المأزق. فالكلفة التي تكبدها مصرف لبنان لتأمين الفرق في تمويل استيراد الفيول فقط والمقدرة بحدود 7،668 مليار ليرة هي ما تقارب مجموع ما رصدته الحكومة الحالية في موازنة 2020 لنفقات "الحماية الاجتماعية"، "التعليم"، "الصحة"، "حماية البيئة" و"السكن". مع سياسات التقشف التي لا مفر منها، لا بد من مقايضة انواع الدعم غير المستدامة بإبقاء وتوسعة تمويل التقديمات الاجتماعية والصحة والتعليم. هنا يجب العمل ايضاً على دعم النقل العام كتأمين باصات النقل المشترك بشكل مجاني ودعم سيارات الاجرة والفانات بكوبونات بنزين مدعوم.

خامساً، تحسين الكفاءة ووقف الهدر ليسا ترفاً

انّ تحسين كفاءة الخدمات العامة ليست ترفاً بل حاجة ملحة. على سبيل المثال تعاني مؤسسة كهرباء لبنان من هدر قُدر عام 2017 بـ 34% من الطاقة الموزعة، وهي من النسب الاعلى في المنطقة (الهدر في الاردن مثلا هو12.9%). فالمطلوب تحسين كفاءة هذه المؤسسة بطرق مبتكرة اصبحت متوفرة ان على مستوى الشبكة او على مستوى الاستهلاك.

ان المطلوب الان الابتعاد عن الشعبوية ومصارحة اللبنانيين ان الاعوام القادمة ستكون صعبة، بل صعبة جداً، ولا مفر من خسائر سيتعرض لها الجميع على ان توزع الخسائر بشكل عادل. في هذه الاثناء، وجب حماية الفئات الفقيرة والمتوسطة من خطر الوقوع أكثر في العوز والفاقة.

*المصادر: وزارة المالية، معهد باسل فليحان المالي، وزارة البيئة، صندوق النقد الدولي

**مرصد الازمة في الجامعة الاميركية هو مبادرة بحثية تهدف الى دراسة تداعيات الازمات المتعددة في لبنان وكيفية مقاربتها.