في يوم الشهيد: ما معنى أن تكون شيوعياً اليوم؟

هو سؤال باتجاهين: نحو الماضي حيث البداية وباتجاه المستقبل حيث الاستكمال. فالاقتناع بالمبادئ والإيمان بعدالة القضايا والانحياز الطبيعي إلى فئات اجتماعية بعينها...

هي المحدّدة للإنتماء الفكري والسياسي والتنظيمي، لكلّ فرد، بالنسبة إلى هذا الحزب أو ذاك. هو الفقر والحرمان والكد والتعب، هو من يأكل تعب يومه وينتظر اليوم التالي، ومن لم يرَ الطريق المعبّدة ولا المدرسة المؤهّلة ولا المستشفى ولا الكهرباء... والذين شاءت ظروفهم أن يتعايشوا مع الفقر منشأُ ومنبتاً وسلوكاً، بالولادة والإقامة، لا بدّ وأن ينشدوا معبراً لهم إلى فضاء أكثر اتّساعاً وأفضل حالاً مما هم عليه. فصلابة الأرض وقساوتها تعطي السبب كي نمتلك الإرادة، والواقع الاجتماعي المتناقض يسهم في بلورتها. ربما هذا وعي، بالفطرة، لما صاغه ماركس وانجلز ولينين من مبادئ ومفاهيم ومسارات، تحاكي الواقع وتعمل على تغييره، فما تراه وتعيشه وتسمعه سيشكّل حتماً وعياً سياسياً ثورياً. فالعامل الذي يعمل أجيراً لدى آخر، والفلاح الذي يزرع لغيره، والمزارع الذي يجني محصولاً رعاه لكنه لا يأكل منه... لا بدّ وأن يسأل أو يتساءل، لماذا العمل في مكان ومحصوله عند آخر؟ هنا يصبح الانحياز التلقائي إلى من لا يمتلك إلّا قوة عمله، هو انزياح طبيعي نحو مواجهة الفروق الاجتماعية المؤدية إلى طبقية متناقضة بين مكوّناتها. هذا الفهم سيستند إلى ممارسة يومية وسلوك، سيشكّل المسار المنطقي لممارسة الفعل اليومي. فمن يمتلك المال يستأثر بالسلطة والقرار وناتج الإنتاج، ومن يمتلك قوة الإنتاج لا يستفيد مما جنت يداه. هي معادلة نمت وتغذّت وكَبُرت مع أجيال توارثتها وأورثتها، وتحمّلت وزرها وورثته. وعلى تلك الدرب الشائكة كان الهمّ يكبر، كما الغضب كما التمرّد كما الثورة...

 

على ذلك الأساس العملي – المعيش وبالفطرة، تكوّن إذن الوعي السياسي، لتأتي النظرية العلمية وتصقل تلك التجربة وتعطيها مسارها التاريخي ومقوّماتها النظرية ووضوح فهمها. فالانتماء التلقائي الآتي من ظلم متوارث وحقد مرده الطبقي هو مسبّبه، وحرمان ارتبط بطبيعة نظام سياسي، تابع بجوهره ومرتبط بوظيفته، جعل تلك الفئات – المنسية جغرافياً – مهمّشة اجتماعياً ومرتبطة بحالة من التبعية المستمرة والمتوارثة، بفضل سلطات محلية وظيفية وذيلية، استبدّت فحكمت الأرض وملكتها وما عليها، وسيّرت الأمور وفق ذلك المنطق: لا شراكة، لا أموال، لا تعليم، لا صحة، لا أرض تنتقل من جدٍّ إلى أبٍ إلى ابن.

 

من هذه الزوايا يصبح اللقاء مع الحزب الشيوعي أمراً بديهياً، لا بل منطقياً. ومن هذا الواقع المتعدّد الأطراف والقضايا، كان ذلك النّور الآتي من أبعاد متعدّدة كي ينتج أفقاً آخرا؛ راكم، على حالة الرفض الطبيعي للواقع، مبادئ وقيماً وفكراً وعلماً... وعلى ذلك أصبح الإنتماء إليه عضوياً وطبيعياً وأصلياً كخيار لا بديل عنه ولا منه. من هنا جاؤوا وكانوا شيوعيين؛ فقبل أن ينده ماركس وانجلز ولينين نده الفقر، مع كلّ ما يمثّله من بؤس وكد وتعب وحاجة وعوز... فاستجابوا إليه، ومنه تعرّفوا إلى المادية التاريخية والجدلية العلمية والصراع الطبقي، فواجهوا. وقبل اللقاء مع ثورة أكتوبر وغيفارا وكاسترو... كانت فلسطين، الواقعة على مرمى النظر، تعاني الاحتلال والتنكيل، فتقاطروا مقاومين وشهداء، وتعرّفوا إلى مفاهيم التحرير والتغيير وميادينهما. لقد أتوا إلى الحزب الشيوعي كمن يأتي إلى النبع (بالإذن من بيكاسو)، ينهلون من معينين: الفكر والنضال، فكانت ساحات العالم وميادينها على مسافة الصوت منهم وهي تهتف للخبز والعلم والحرية والتحرّر والتحرير. انتظموا صفوفاً وراء الفكر، المقرون بالممارسة اليومية، وجعلوا منه فعلاً ثورياً باستمرار، يجدّد ويتجدّد ويتطوّر.

 

وتسألون لماذا هم شيوعيون؟ الجواب في متناول القول والفعل، كما في الكلمة والموقف؛ نحتوا من صخور الجبال مسارات كي يروا النّور ويتمتّعوا به. وحفروا في عمق الأرض كي يصلوا إلى الجذور البكر، الخالصة والصافية من أي تشوّه معرفي، كي ينمو زرعهم ويكبر في فضاءات خالية من أوبئة الطوائف ورأس المال. ونهلوا من الثقافة زاداً كافياً لأن يزيل الغشاوة عن العقول، وجعلوا من نور الشمس مساراً، يتفيّأ بظلال المبادئ التي آمنوا بها وانتظموا في صفوفها، عمالاً وفلاحين ومثقفين... الساحة لهم كما الشارع كما الوطن كما العالم، جاؤوا من الجهة الواضحة، جهة الخبز والعلم والحرية والمقاومة... دربهم طويلة، شاقة وصعبة، لكنها ليست مستحيلة، فيهم من الهمّة ما يكفي، ودفعوا من الأثمان غالياً.

 

لهم الساحات وميادينها، تقاطروا من أربع جهات الأرض نحو الشمس، فكانت لهم، ونحو الحرية فدنت لجباهم العالية. دروب طويلة شاقة ساروا عليها، استلوا من صلابة جبالهم سيوف المقاومة وانتفضوا، وتركوا في كلّ ساحة من ساحات النضال شاهداً وشهيداً، لا تعرفهم إلّا حين يسقطون. تقدّموا الصفوف ولم يتراجعوا، كبيرهم كما أصغرهم، الوجهة واضحة كما الاتجاه، لم تلتبس عليهم أية قضية أو موقف، بل تراهم يتوافدون كنسيم الصبح صافياً واضحاً لا تشوبه شائبة. لهم في كلّ جولة صولة، أثرهم واضح كما شواهدهم؛ للطبقة العاملة قدّموا، للطلاب والموظفين، كما لقضايا الفقر والعلم والخبز، للمقاومة قدّموا وتقدّموا، كان وعيهم منزّهاً، لم تضطرب الاتجاهات ولم تختلّ القناعة لديهم فزرعوا تحت كلّ شجرة وخلف كلّ صخرة نقطة دم أنبتت تحريراً ونادت بالتغيير. عيونهم نحو الشمس يتلمّسون طريق الحرية والعدالة الاجتماعية.

 

لأجمل الأمهات التي انتظرته كي يعود، لأجمل الأغاني التي كانت تزفّ فيها مواكب الشهداء، ولأجمل دمعة سقطت على تلك الدروب حزناً وغضباً على فراق رفاق أو فقدانهم. لكم في وجدان شعبكم كلّ المجد وفي ضمير رفاقكم كلّ الوفاء. فلتكن هذه المناسبة محطة إضافية كي نجدّد الهمّة باتجاه استكمال المواجهات المفتوحة مع هذا النظام السياسي المستبدّ والقاتل، الذي أزهق حياة اللبنانيين ومستقبلهم وفرّط بدماء الشهداء وتاجر بها، وها هو اليوم يستكمل مساره الانحداري، فتراه يُذِلّ المواطنين بلقمة عيشهم ويحجز حياتهم رهينة سياسات قاتلة وفاشلة، ويستقبل العملاء بالأحضان ويتغاضى عن حقوق الفقراء وعموم الشعب. فلتكن هذه المناسبة محطة إضافية للتأكيد على حقّ شعبنا بالحرية والعدالة والكرامة، وحقّ شهدائنا بأن نصون تضحياتهم، والتذكير بشهدائنا – الأسرى، الياس حرب، حسام حجازي، ميشال صليبا، جمال ساطي، فرج الله فوعاني، أياد قصير، حسن محمد ضاهر، حسن علي موسى ويحي الخالد، والعمل على تحرير رفاتهم. ولتكن أيضاً محطة تأسيسية لبدء المواجهة الواضحة مع هذا النظام السياسي وسياساته؛ وليكن يوم الشهيد الشيوعي نقطة الانطلاق نحو بناء تلك المواجهة، بوضوحها وخياراتها وبرنامجها وأناسها وقواها، وليكن إحياء المناسبة بهذا الاتجاه وفي كلّ المناطق. إلى الرفاق الشيوعيين نقول: معكم العيد هو الأجمل والأنقى لأنّكم كذلك، وله طعم المواجهة والعزّة والكرامة، لأنكم دوماً في الجهة الواضحة، لا تساوموا ولا تتراجعوا ولتكن الرؤية لديكم أكثر وضوحاً، وبهذا المعنى، حتماً، نحن شيوعيون!

 

*مسؤول العلاقات السياسية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني