عرسال: آثار الحرب في ٣٠٠ كيلومتر مربع (2)

دفعت الحرب ملايين الرجال والنساء في سوريا إلى مغادرة حدود بلادهم، وليس فقط عبور البحار والقارات، بل بدؤوا أيضاً بالهجرة الجماعية إلى الدول المجاورة. ففي لبنان، تم توزيع ما يصل إلى مليون ونصف مليون لاجئ في جميع أنحاء مناطق البلد المختلفة التي يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة.

عرسال بلدة حدودية تقع في شمال شرق لبنان على بعد ١٢٣ كم من بيروت، وعلى بعد ١٢ كم فقط من الحدود السورية، وتغطي مساحتها ٣١٦ كيلومترٍ مربّع. وتتميز عرسال بمناظر التمركز السكاني الواسع على قبابها وأبراجها، فضلاً عن الأسطح البيضاء التي لا تحصى والتي تغطي ١٣٢ مخيّماً للاجئين في أراضٍ كانت في السابق زراعية أو شاغرة. ويشير عدد النازحين فيها إلى ١٢٠ ألفاً، أي ثلاثة أضعاف عدد سكانها الأصلي البالغ عددهم حوالي ٤0 ألف نسمة. ثم تمّ تغيير الديناميات الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، لتزداد سوءاً أكثر من ذي قبل عندما استولت داعش على المدينة لعدة سنوات.
اليوم وبعد طرد داعش من عرسال، يغرق هذا المجتمع في سيناريو من الأرق يصاحبه في نفس الوقت إرادة كبيرة للعودة إلى الحالة الطبيعية في وقت تهدد فيه البطالة التعايش بين السكان السوريين واللبنانيين، ولا ننسى الخطر المتجسد في الألغام المضادة للأفراد التي تهدد العلاقة والتنمية. وهي حالة تعرقل سلطات عرسال وسكانها والنازحين الذين يثبتون من خلال مبادراتهم ورغبتهم في التفوق أن عرسال تتطلع إلى مستقبل مختلف.
في عرسال يد عاملة رخيصة
بدأ خالد يوسف الحجيري العمل في مخبز من دون أن يكون لديه أدنى فكرة عن كيفية صنع الخبز. ظل خالد يعيش حتى عمر الثامنة عشرة على عاتق والديه و كان اهتمامه الوحيد الدراسة. لم يمر عام على بدء تدريبه المهني في مجال الإلكترونيات عندما توفي والده، يوسف، جراء انفجار لغم مضاد للأفراد ومنذ ذلك أخدت حياته منعطفاً جذريّاً.
"فجأة تحولت إلى شخص بالغ" يقول خالد بصوت خانق و بنبرة متألمة. ويتابع "أجبرت على ترك دراستي وبدء العمل فكانت الطريقة الوحيدة لدفع مصاريف المنزل وأيضاً لدفع المصاريف الطبية لأمي، فطوم".
يعمل خالد شهرياً بقيمة ٧٥٤٠٠٠ ليرة لبنانية و سرعان ما بدأوا بتخفيض قيمة راتبه تدريجيّاً حتى اضطر إلى الحصول على وظيفة ثانية في نفس الوقت كبائع لأدوات المطبخ ، تجلب له ٣٠٠٠٠٠ ليرة لبنانية إضافية. ويقول حيال ذلك "راتبي بالكاد يكفي لتغطية نفقات الغذاء والأسرة ودفع الديون الطبية. ففي الكثير من الأشهر أكون مضطرّاً أن أقترض المال مما يجعلني اختنق بالديون".
وبالرغم من كل ذلك، يمكن لخالد أن يشعر بأنه محظوظ نظراً لكون البطالة في لبنان تؤثر على 20٪ من سكانها الناشطين اقتصاديّاً حسب التقديرات. يزداد الوضع سوءاً في عرسال، فنسبة البطالة هناك تصل إلى ٣٠ ٪ ، مما يؤثر بشكل خاص على الشباب. لكن الأمر لا يقتصر على الافتقار إلى الوظائف فحسب، بل يتمثل في عدم الاستقرار الحالي، والذي يولد توتراً ملحوظاً في القطاع التجاري بين التجار اللبنانيين والسوريين.
في طريقها إلى مقر بلدية عرسال، توقف نائبة رئيس بلدية المدينة ريما كرنبي سيارتها في منتصف الطريق لترينا ثلاثة متاجر بالقرب من بعضهم، أحدهم تابع للبنانيين واثنين يواجهونه تابعين لتجار من أصل سوري.
"يبلغ عدد اللبنانيون الذين يعيشون في عرسال 27 ألفاً ، بينما السوريون فهم ٧٠ ألف"، تقول ريما قبل أن تطفئ السيارة وأن تركنها بعد بضع أمتار. وتتابع "انظروا إلى محلات الخضروات تلك، فهي أيضاً مقسمة بين إثنين للسوريين ومحل آخر صاحبه لبناني... والسوريون يشترون فقط من أهل بلدهم، الأمر الذي يؤثر سلباً على التجارة العرسالية".
عدا عن سلطتها المستحقة لها عبر انتخابها في الانتخابات الأخيرة عام ٢٠١٦ من قبل حزب اجتماعي وعلماني، فربما تتميز أيضاً بكفاحها من أجل حقوق الإنسان والتعايش. و لكن هذا لا يعني أن هذا الوضع الذي يربك التجار المحليين لا يؤثر فيها، وبالأخص عندما تكون الشركات السورية غير مصرح بها من قبل البلدية.

"وجود كل هذه المتاجر قد خرج عن سيطرتنا. نظرياً ، ليس من حقهم إقامة المحلات التجارية بأي شكل من الأشكال كونهم لاجئين ولكن لا نستطيع أن نفعل شيء حيال ذلك. فعندما تشب المشاكل بين السوريين والعرسالين نتوسط بينهم منعاً لحصول العنف ، لكن لا شيء أكثر من ذلك" تحذر ريما كرنبي أيضاً من مشكلة أخرى، وهي اليد العاملة الرخيصة السورية في المجتمع.
"على سبيل المثال، لا يقبل المزارع اللبناني أقل من ٢٢٦٠٠ ليرة لبنانية يوميّاً، المبلغ الذي يمكنه من تلبية احتياجاته الأساسية"، تخبرنا كرنبي. وتتابع "أما السوري فيتقدم لنفس العمل أو غيره ويقبل ما يصل إلى ٥٠٠٠ ليرة لبنانية، ويضمونها إلى باقي مساعدات الأمم المتحدة من طعام ومال للموازنة".
يوضح موسى بوركبة، الباحث فيCIBOB ، أن الاستفسارات الحديثة المتعلقة بتوليد العمالة والبطالة وتقلصها في الشرق الأوسط، تظهر أن التوترات في مكان العمل قد ازدادت بشكل ملحوظ في البلدان المستقبلة للنازحين، وخاصة أولئك الذين استقبلوا عدداً كبيراً من اللاجئين من سوريا.
يقول بوركبة أنّ "هناك عاملان يعززان ذلك، وهما الوضع الهش في هذه البلدان ، كحال لبنان وأن بعض الجهات الاقتصادية الفاعلة ترى هؤلاء الأشخاص على أنهم يد عاملة، ما يزيد المشاكل."
أمضى أحمد حسين المصري السنوات الأربع الماضية يعمل في متجر "دولار" مقابل راتب قدره ٥٠٠٠ ليرة لبنانية في اليوم. سوري الجنسية وبالغ من العمر ١٧ عشر عاماً، حضر إلى عرسال مع والدته وأخواته في عام ٢٠١٢، عندما كان يبلغ من العمر ١٠ أعوام وكان عليه أن ينفد من مسقط رأسه حمص.
يواجه أحمد صعوبة في التعبير عن نفسه ، وعندما يشعر بالتوتر ، يخفض عينيه و تلامس يده بعضها. يداه كبيرتان وخشنتان كأيدي البالغين ، مدبغة بتعب العمل مما يشكل تناقض كبير مع وجهه الطفولي.
"منذ وصولنا إلى هنا ،وكان عليّ أن أهتم بأسرتي" ، يقول أحمد بين همسات قبل أن يبدأ برواية تفاصيل عمله اليومي الذي يبدأ الساعة السابعة صباحاً وينتهي بعد الحادية عشرة ليلاً: فتح المتجر ، ثم استلم البضائع من المزودين وصفها جيداً على رفوف المتجر... وفي وقت لاحق تحميل المنتجات في شاحنة تذهب إلى فروع أخرى لنفس المالكين. تسنح له استراحة لتناول الطعام مدتها نصف ساعة ويسير مسرعاً في دراجته النارية الحمراء سيئة الحالة. وبعد ذلك، يرجع لاستقبال الزبائن في المتجر حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً، وبعد أن كان قد غادر أصحاب العمل من عدة ساعات يبقى هو ويهيء الأغراض لليوم التالي. في نهاية اليوم حوال الساعة الحادية عشرة والنصف، يصل إلى مخيم اللاجئين، حيث يعيش مع والدته وشقيقته ليأكل شيئاً وينام.

- كيف كانت حياتك في سوريا؟
كانت حياتي أكثر راحة. لم أكن أستيقظ مبكراً مثل الآن. كنت أرتاد المدرسة وكان والدي ما زال على قيد الحياة. كان أبي وأمي يأمنون لكل ما احتاجه. كنت طالباً مجتهداً ولم أكن بحاجة أن أعمل. كان لدي كل شيء. عندما وصلنا إلى هنا كل شيء قد ذهب.
- هل تعتقد أن لديك فرص عمل هنا؟
حق السوريين غير موجود في لبنان. أنا أعمل طوال اليوم لجمع خمسة آلاف ليرة لبنانية. أما هنا لا يمكنك العمل والدراسة في نفس الوقت.
- كيف يعاملك أرباب عملك؟
- أعمل لدى لبنانيين. يعاملونني بشكل جيد خلال يوم، وفي يوم آخر لا يفعلون ذلك. يصرخون في وجهي ويغضبون مني. أعتقد أنهم يعاملونني هكذا لأنني سوري.
بالنسبة لسلطات عرسال، فإن هشاشة العمالة واستغلال العمالة للسكان السوريين ليست قضية يمكنهم التعامل معها لأن القوانين اللبنانية تمنعهم حاليّاً من العمل كونهم لاجئين. إذا أرادوا العمل بشكل قانوني، فسيتعين عليهم دفع ضرائبهم واستئجار شقة والتوقف عن تلقي المساعدات الإنسانية.
القانون يمنع اللاجئين من العمل. لكن الإنسانية تقول أنهم أطفال ونساء من ذوي الإحتياجات، إن السوريين أشخاص ويحتاجون إلى العمل"، يقول باسل الحجيري رئيس بلدية عرسال.
وهو جالس في مكتبه بمبنى البلدية، وهو مبنى من ثلاثة طوابق، وقد صُنعت واجهته بالكامل بالحجر الشهير في المدينة، يقول أعلى سلطة مدنية في المدينة إنه يتفهم احتياجات النازحين تماماً، لكن هذا لا يمنعه من القلق على سكان عرسال وهو يدرك أن هذا الوضع الحساس لا يؤثر فقط على الأشخاص في المجال الاقتصادي ، ولكن أيضاً على صعيد الصحة بغض النظر عن جنسيته.
رادما مصطفى كرنبي هي ممرضة في إحدى العيادات الموجودة في عرسال، والتي تم بناؤها بفضل دعم (Associació Catalunya-Líban)، وهي منظمة تعمل في البلاد منذ التسعينيات. يستقبل هذا المركز الطبي يوميّاً أكثر من عشرة مرضى، الذين يجمعهم قاسم مشترك قوي وهو غالباً مرض الاكتئاب.
"الأزمة الناجمة عن وصول اللاجئين والإرهابيين زادت البطالة بين الشباب مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي للمدينة فصفت بلا فرص عمل وبلا تجارة. هذا الأمر يؤثر أيضاً على الصحة بغض النظر عن البلد الذي أتوا منه"، تقول الممرضة، وتضيف أنها تصادف الكثير من حالات المصابين بالاكتئاب ما تصاحبه أحياناً أمراض مثل السكري أو ارتفاع ضغط الدم.
خالد، على سبيل المثال، يخبرنا إنه يعاني من الصداع المستمر بسبب عمله غير المستقر ووضعه العائلي.

"بعد وفاة والدي، ارتفع ضغطي، تماماً مثل أمي فأنا أعاني أيضاً من مشاكل في القلب ومشاكل في تخثر الدم"، يقول خالد.
حالة عاطفية تضخّمها الحقيقة التي يعيشها يوماً بعد يوم: العيش في أحد مخيمات اللاجئين في عرسال البالغ عددها ١٣٢، والتي يعيش فيها أكثر من ٧٠،٠٠٠ نازح. هناك، لا يعانون فقط من ظروف قاسية كمشردين، بل يجب عليهم أيضاً مواجهة عواقب خدمات الصرف الصحي المحفوفة بالمخاطر والتعايش غير المستقر مع سكان المدينة.

  • العدد رقم: 365
`


غسان صليبا