من لبنان الى باريس: قصة نجاح بتوقيع طرابلسي

وانت تتجول في شوارع باريس، في برد كانون القارص، يظهر عليك في مفترق شارع سان مارتان محل صغير تألفه العين بسرعة وتنجذب اليه الأنظار. تدخل المكان فيلقي عليك صاحبه ال"مرحبا" بلهجته الطرابلسية الجميلة فتشعر وكأنك، في قصوة الغربة والوحدة، حُضنت بلفحة من دفئ الوطن. هو السيد محمد أمون ابن الفيحاء طرابلس يتأهل بك وانت ما زلت في الخارج، تدخل من باب المحل فيطير بك الزمن ويعيدك الى شوارع المدينة، الى محلات ومطاعم الميناء والأسواق القديمة المزدحمة بالمارة.

ينتابك شعور غريب، شعور يفصل بين عالمين وزمنين، شعور يشبه الحنين، يذكرك بقسوة الظروف التي دفعتك للمغادرة، لترك اهلك واصدقائك، فلا يمكن ان تتهرب من التساؤل: هل يشبه مصيرنا، مصير اجدادنا أبناء هذا الوطن؟ هل محتم علينا ان نهاجر الى كل اقطار العالم بحثا عن حياة كريمة؟ هل مكتوب لنا ان نسافر في كل أمم الأرض لنؤسس فيها زوايا تشبه وطننا؟
تزيل هذه الأسئلة الوجودية من رأسك ليخطفك المشهد امامك، حلويات من كل الأنواع، من الكنافة الى البوظة العربية التقليدية الى السحلب الطرابلسي الشهير، ما لاذ وطاب من الحلويات اللبنانية المشرقية والاهم من هذا كله، رحابة الموظفين وخفة ظلهم وحبهم للناس. تستعيد فجأة عاداتك السابقة وتدخل بالحديث عن شتى الأمور والجدران حوليك ممتلئة بصور لبيروت وطرابلس القديمة فتنسى اين انت وتدخل الى عالم اخر مواز.
بعد التذوق الطويل والتلذذ بحواضر المحل، لم أستطع إخفاء رغبتي بمعرفة المزيد عن صاحب المحل السيد محمد، عن مشواره الذي قاضه من طرابلس الى باريس لعلني أجد في قصته شيء يشبه قصتي، غريبا في وطنه، وطنيا في غربته.
بطيبة اهل طرابلس المعروفة وافق السيد محمد اعطائي مقابلة بحماسة.
بدأ السيد محمد بالكلام، فكانت المفاجئة، يقول الأخير: "جئت الى فرنسا عام ٢٠١٢ كطالب لأكمل دراساتي العليا، عند إنجازها انطلقت بمشروع بحثي لإعداد رسالة دكتوراة انتهيت من كتابتها عام ٢٠١٨". صدمت بهذه الكلمات فهل يعقل ان الشخص الذي يقف هنا امامي يقطع الحلوة والكنافة، هو دكتور متمرس بالمجال البحثي والعلمي؟
يتابع: “افتتحت اول مطعم لي هنا عام ٢٠١٧ بموازاة اعدادي لمشروع رسالة الدكتوراه، مطعم رنوش" يضيف الدكتور محمد، ردا على سؤالنا: "كان مجال تخصصي الفيزياء الحيوية وموضوع رسالة الدكتوراه طريقة تصنيع مستلزمات طبية وعملية مضادة للجراثيم". عندها لم أخف عنه سؤالي، ما علاقة هذا الموضوع العلمي الدقيق والحساس بمجال الاكل والمطاعم والخدمات؟
يجيب الدكتور أمون بصراحة مطلقة: "انت تعرف ان في فرنسا الرواتب ليست مرتفعة كالأجور في دول الخليج العربي مثلا، هذا الذي دفعني للانخراط في مجال المطاعم أولا وثانيا ان عائلتي تملك سلسلة مطاعم "رنوش" المعروفة في طرابلس، فكنت ضليع في هذا المجال وخبير به منذ سن مبكر".
يتابع الدكتور محمد: "مررت بظروف صعبة فلم يكن المشرفين على رسالتي البحثية على علم بانخراطي بهذا المجال فواجهت صعوبات جمة للتوفيق بين المشروعين الا انه عند اشراف الرسالة على الانتهاء تبدلت الأوضاع وأصبح امامي متسع من الوقت ففتحت المطعم الثاني ومن ثم الثالث وقريبا سأفتح المطعم الرابع في باريس أيضا، اما الذي تميزنا به هو ادراكنا ضرورة تغيير الأفكار من مطعم الى اخر. في باريس أصبح هنالك الكثير من المطاعم اللبنانية المتشابهة فقررت فتح المحل الرابع قريبا متخصصا بالصاج والمحل هذا الذي يختص بالبوظة بالقشطة النادرة هنا".

بعد هذا الشرح والتفصيل العملي لمشاريعه، اردت توسيع مجال اسئلتي ليشمل طابع العمل الاجتماعي، فطرحت على الدكتور محمد:" بماذا استفدت في عملك هذا من خبرتك السابقة في طرابلس وهل استقدمت خبرات وتقنيات خاصة بأهل المدينة؟"
يجيب بحماسة: "بكل تأكيد! أكثر ما استفدنا منه هو حرفية اهل طرابلس. انظر! كل هذه المكينات الموجودة في المحل هي من صنع طرابلس، فضلنا استقدامها من المدينة نظرا لجودتها فضلا عن شرائها من السوق الفرنسية وهي من عمل عائلة الطرطوسي الطرابلسية المختصة بحرفة تصنيع النحاس. كما وفي مجال الاكل والطبخ، يعمل معنا طاه مختص في الحلويات من طرابلس".

عندها سئلت الدكتور محمد ان كان عنده ما يقوله لأبناء مدينته المهمشين، لهذه المدينة المظلومة التي عملت جهات كثيرة من الطبقة الحاكمة على افقارها وتشويه صورتها؟
"هنا في باريس لا يعرف الكثير من الناس هذا النوع من المأكولات، ولكن هذا لم يمنعنا من العمل والنجاح، اما في المدينة فالجميع يألف هذه الحلويات ويحبها، فعلى الطرابلسي العمل من قلبه كما كان دوما يفعل والتركيز على جودة الأكل وعدم الاكتفاء بالمردود المادي، بل السعي لتطوير عمله وتجارته".

ما قاله الدكتور أمون عن عشق اهل طرابلس ولبنان وسائر اهل بلاد الشام لهذا النوع من الحلويات صحيح لكن ماذا عن الفرنسيين الأوروبيين غير المعتادين عليه؟ كيف يفسر تحمسهم واقبالهم على تناوله؟

"المطبخ اللبناني يتميز بتنوعه الكبير من المأكولات النباتية الخالية من اللحوم (وهي مرغوبة كثيرا في فرنسا) وأيضا المأكولات التي تدخلها اللحوم لكن الخالية بأغلبيتها من السمنة والدسامة التي تضفي عليها طابعا صحيا متميزا. اما حلوياتنا التي تعلمنا صنعها من الاتراك فقد تغلبنا عليهم في صناعتها وتميزنا بتقليل السكر فيها ما جعلها صحية بامتياز وما يفسر الاقبال عليها حتى من غير العرب".

بعيدا عن أجواء الاكل والمطاعم سألت الدكتور محمد ان كان قد واجه، كما يشكوا الكثير من العرب في فرنسا، عنصرية في المعاملة او فوقية خصوصا في مجال الاعمال.

يفاجئني بجوابه النافي نفيا قاطعا لأي نوع من المعاملة العنصرية ويقول: "فرنسا بلد حر، تحترم فيه حقوق الانسان، الحوادث ذو الطابع العنصري تبقى هي الاستثناء وقليلة جدا. لم اتعرض لأي نوع من العنصرية طوال اثنتي عشرة سنة من الإقامة هنا حتى قبل حصولي على الجنسية الفرنسية. للأسف فالحقيقة، ان العنصرية متجذرة في لبنان، الحوادث الأخيرة من قمع اللاجئين السوريين تؤكد ذلك".

اضفت حينها: "هل من الممكن ان نراك يوما ما تفتتح مطعما لك في طرابلس لكي تستفيد المدينة من الخبرات التي اكتسبتها في الخارج؟"

"طبعا، وهذا شرف عظيم! المطلوب هو القليل من الاستقرار الأمني فقط، اما شروط العمل والاستثمار فهي أسهل بكثير من تلك الموجودة هنا، ففي لبنان كل المستلزمات المطلوبة موجودة كما الخبرات أيضا.

حين أشرف الحديث على الانتهاء بادرت الدكتور محمد بالسؤال: "هل تنصح الشباب اللبناني الباحث عن طريق له في سوق العمل اليوم التوجه للمجال العلمي البحثي او المجال الحرفي التطبيقي بما أنك اختبرت المجالين؟"

"هذا امر يتوقف على السوق المنوي العمل فيه، هنا في فرنسا وفي أوروبا بشكل عام أصبحت بنظري الدرجات العلمية الاكاديمية عادية جدا وغير مطلوبة عكس العمل الحرفي الحر الذي يعتبر ناقصا في المجتمعات الغربية، ان بحوثي ورسالة الدكتوراه افادتني بكونها وسعت افاق تفكيري ومنحتني اسم وتوقيع لكن تبقى هذه المجالات عادية جدا هنا على عكس دول الخليج العربي مثلا التي هي بحاجة لطاقات بحثية جديدة".

قلت الدكتور محمد ان كان لديه ما يقوله لأبناء طرابلس الذين لطالما تعرضوا لأبشع أنواع حملات القمع والتشويه من قبل الطبقة الحاكمة بهدف عزلهم وافقارهم.

يختم الدكتور محمد "نظمت الكثير من الحملات الإعلامية لتشويه المدينة وابنائها، انا أقول لأهلي، للشعب الطرابلسي، لديكم كل مقومات النجاح في كل المجالات يبقى النقص في مجال البنى التحتية، الفندقية منها بشكل خاص، لكي تجذب المدينة المستثمرين والسياح. الاعلام هو الذي ظلم المدينة، الرد المناسب هو بإعلام مضاد يسلط الضوء على جمال المدينة وتنوعها وانفتاح أهلها. بدأ هذا الامر بالحصول مع بروز الكثير من المؤثرين الطرابلسيين على مواقع التواصل الاجتماعي وهذا لم يكن معقول منذ ١٠ سنوات ما يظهر تطور إيجابي نتمنى ان يستمر".

عندها استودعت الدكتور محمد شاكرا إياه على صراحته ورحابة صدره ويبقى محمد رمز الطرابلسي الطموح والطيب الذي وان تغرب لا ينسى جذوره، فهو حمل طرابلس في قلبه وزرع بذورها في وسط باريس.
هذه المقابلة ليست الا شهادة صغيرة على إمكانيات اهل طرابلس الكبيرة، فأزيحوا عن المدينة لعنة سياساتكم الفاشلة ولينطلق أبنائها في كل المجالات، لكي تنهض طرابلس وفي نهضتها نهضة الوطن بأسره.