في أهداف الحركة والحلول المطروحة

في أهداف الحركة والحلول المطروحة تصوير: وسام أندراوس

سنحاول التركيز على نقطة واحدة محددة هي هدف الحركة الذي بدأ يتبلور مؤخّراً والذي يختلف عن الهدف الذي كان قد صار شعاراً بارزاً في المرحلة الأولى من تصاعد الحركة الشعبية. فإذا أردنا أن نحدّد إمكان الوصول إلى هدف التغيير علينا أن نأخذ ليس فقط الفرص المتاحة والمعوقات، بل أيضاً الظروف التي يحاول الحل أن يتصدّى لها. وهذا ما يعطي واقعية الحل من عدمه.

الحكومة الإنتقالية كـ"مطلب"!
في بداية الأزمة طُرح شعار "حكومة انتقالية" تحمل هي مهام اتخاذ الإجراءات السريعة لوقف الانهيار والتصدي للأزمة المالية والنقدية وتداعياتها على الاقتصاد والمستوى الاجتماعي، بما يتعارض مع وصفة صندوق النقد وقوى رأس المال المالي المعتمدة من قبل النظام التبعي التي تعمق الأزمة بدل أن تحلها. الحكومة الانتقالية التي ستفتح باب التغيير الجذري عبر إرساء قاعدة نظام جديد قادر على بناء مجتمع فيه تنمية عالية، متحرّر من علاقة التبعية بالاستعمار الجديد، المجتمع المُقام والقادر على الدفاع عن نفسه على كل المستويات. وقد حكم هذا الشعار الخطاب الذي ساد الحركة الشعبية وقواها طوال المرحلة التي سبقت تشكيل حكومة حسان دياب. واعتمدت الحركة في تلك الفترة الضغط عبر الشارع على القوى السياسية ومن خلفها القوى الاقتصادية للنظام، بمعزل عن الصعوبات في تشكيل المنبر البديل أو الخلفية التي حكمت تشكيله، إلّا أنّ هكذا منبر سياسي بديل لم يتبلور، ليصير قادراً على الفرز السياسي في البلاد، وأن يحمل برنامج الحكومة الانتقالية، وأن يمارس دوره في هكذا حكومة، بل بقيت الحركة الشعبية تطالب بتشكيل "حكومة انتقالية من خارج قوى السلطة".

شكّل غياب هذا المنبر البديل، وغياب الاستعداد لدى قوى البديل لطرح أسماء احتمالية للحكومة الانتقالية، عواملَ أغلقت حتى فرص تشكيل تلك الحكومة، لسبب بسيط هو أنّ قوى السلطة لن تسلّم بكل بساطة لأي بديل دون صراع، وخصوصاً أنّ برنامج الحكومة الإنتقالية المطروح ليس خطوات إصلاحية تقدر السلطة على التجاوب معها، بل هي خطوات جذرية تهدّد سيطرة هذه القوى نفسها. والجانب الآخر من صعوبة هو التناقض ضمن قوى السلطة نفسها ربطاً بالصراع القائم في العالم والمنطقة حول أي طرح لتشكيل حكومة أو استقالة الموجودة إلى عنصر مواجهة بين قوى النظام نفسها، وحوله إلى ملف أوسع من إحداثيات الداخل اللبناني فقط.

إنّ التأخر في مبادرة البديل السياسي الشعبي في تصدّر المشهد السياسي (ولا نقول الشارع عبر التواجد في الطريق أو الأوراق المطروحة)، وبسبب ناتج عن التناقض بين القوى السياسية نفسها، تشكّلت الحكومة الأخيرة، فبدا أنّ الشهور الماضية كلها لم تسمح بتشكيل حكومة "من خارج قوى السلطة". وهذا بحد ذاته إثبات أنّ القوى السياسية في تعقيد تلاقي مصالحها وتعارضها على السواء لا يمكن أن تلبي هكذا "مطلب" غير واقعي. أي أنْ تحكم على نفسها بالإنتحار.

لحظة التحول في الحل

هنا كانت ملامح الحل قد بدأت تتغيّر في الخطاب العام ضمن الحركة الشعبية والقوى السياسية فيها، بعد أن ظهر "عجز" الاستحصال على الحكومة الانتقالية المطروحة. والشعار (الحل) الأبرز الذي بدأ يتقدّم في فضاء الحركة الشعبية هو التشديد على قانون انتخابي جديد وانتخابات مبكرة، بمعزل عمّا يمكن لقانون جديد أن ينتج اليوم، حتى لو كان لبنان دائرة واحدة وعلى قاعدة النسبية. إنّ الابتعاد عن طرح الحكومة الإنتقالية، أي تراجعه إلى الخلفية، يعني القفز عن وقائع الأزمة نفسها، والتي لا يمكن تجاوزها إلّا عبر جدول أعمال نقيض لجدول الأعمال الذي ساد طوال العقود الماضية.

نرى أنّ لهذا التحول في الشعار الأبرز للحركة عاملاً آخر غير جانب عدم واقعية تحقيقه عبر المطالبة فقط، بل جاء أيضاً بعد صعوباتٍ بدأت بالتطور وهي تراجع زخم الحركة نفسها والانكفاء الشكلي (المؤقت) للشارع. فالانتقال إلى خيار "الصراع البرلماني" اليوم، جاء بعد استعصاء الخيار "الانتظاري سياسياً" في ما خصّ الحكومة.

بضع كلمات عن الخيار البرلماني

إنّ الخيار البرلماني يعطي تصوّراً أنّنا في مرحلة تطور هادئ للمجتمع، ولكنّ المرحلة الراهنة هي أزمة عميقة بنيوية تهدّد انتظام وبقاء المجتمع نفسه، وتهدّد تماسك بناه السياسية والاجتماعية. وتعمّق الأزمة أكثر وخصوصاً بعد اعلان برنامج الحكومة الجديدة الذي يثبّت السير بركب السياسيات السابقة نفسها، هو خيار غير واقعي كخيار برلماني، أقلّه كمخرج لأزمة الإفلاس الحالية والانخفاض الحاد بمستوى المعيشة وتوسع دائرة الافقار والتعطّل عن العمل، وتعاظم الأزمة السياسية التي أعلن عن معالمها رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري في ذكرى الحريري الأب.
عودة للحكومة الانتقالية

وإذا اعتبرنا أنّ الخيار القادر على طرح مخارج من الأزمة المركبة هو الحكومة الانتقالية على قاعدة برنامج إنقاذي وتغييري جذري، لم يكن شعار الحكومة الانتقالية صعب المنال فقط بسبب استحالة تحقيقه مطلبيّاً عبر قوى السلطة فقط، ولسبب آخر هو عدم المبادرة السياسية لقوى البديل أيضاً، بل في كونه يطرح استبعاد جميع القوى السياسية في البلاد، وبالتالي يقفز فوق توازن القوى الداخلي وتعقيداته. وهذا يغلق مسبقاً أفق تحقيق هكذا خيار.

أمّا المطلوب هو أن تعكس الحكومة الانتقالية التوازن الشعبي الجديد. وأن تتضمّن مباحثات مع القوى السياسية الأخرى تحت سقف جدول أعمال جذري لتلك الحكومة يفرض عليها هي أن تحدّد موقفها، وعندها تمسك الحركة المبادرة السياسية، باستغلال ضغط توازن دولي صاعد داعم للحلول السياسية والاستقرار.

  • العدد رقم: 373
`


محمد المعوش