مساهمة في نقد توجّهات الحركة الطلابية، عطفاً على محطّتها الانتخابية للعام 2020/ 2021

 

في عرض المسألة: 

تشهد الجامعات الخاصّة في بداية عامها 2020/2021 انتخاباتها الطلّابية، كالمعتاد، إنّما لأوّل مرّة ما بعد 17 تشرين. وبطبيعة الحال، تنعكس حالة خارج الحرم الجامعي إلى داخله. حتّى اللحظة، انتهت المحطّة الانتخابيّة في الجامعة الأميركية اللبنانية (بيروت وجبيل)، وجامعة رفيق الحريري، والجامعة الأميركية في بيروت، وتخوض اليسوعية انتخاباتها في هذه الأثناء. دون تفصيل نتائج كلّ جامعة على حدّة، ما يهمّنا هنا هو متابعة ديناميّة الحركة الطلّابية (للعام الراهن) بكليّتها. والنتائج، حيثُ أُعلنَت، أظهرَت "فوزاً" ما من نصيب اللوائح التي تعتبر نفسها مكوّناً من "الشارع"، امتداداً للانتفاضة، أي عموماً اللوائح التي انضَوَت تحت عنوان "17 تشرين"، وهي بطبيعة الحال مُعارِضة لأحزاب السلطة (ومسألة "الفوز" نسبية، فهنا خرق المجلس السابق يُعتبر فوزاً، وهناك لا فوز إلّا بتحصيل أكثرية المجلس، أو حتى تغيير صلاحيات المجلس).

الجديد أيضاً، أنّ معظم القطاعات الطلابية لأحزاب السلطة انسحبت من المعركة، ولو بقناع "المقاطعة". طريفة هذه المقاطعة إذ تأتي بحجّة الامتعاض من القانون الانتخابي، بينما أحزاب هؤلاء الطلاب نفسهم أبدعت مراراً باجتراح قوانين انتخابية يا ماشالله عليها، ولا تزل تمارس سلوكاً سياسيّاً يلجم الديمقراطية عند كلّ مفترق. المهم، بدعة المقاطعة مردّها بشكل أساس الموجة الطلّابية المعارِضة التي تتّسع حظوظها من جامعة إلى أخرى بعد حسم الانتخابات في تلك السابقة. لحفظ ماء الوجه، تقاطع أحزاب السلطة الانتخابات، عوضاً عن خوضها والتعرّض لسلبيّات نتائجها أو الاضطرار لابتداع تحالفات عجائبية – والمفارقة أيضاً أنّ مَن اختار خوض الانتخابات، هي نفسها الأحزاب التي راوغت في غير مرّة بالتعبير عن تأييدها للانتفاضة، من القوّات اللبنانيّة إلى تيار المستقبل إلى الحزب الجنبلاطي، إلى أن تمخّض عن طلّابها خطاباً مضاداً للطلّاب المنتفضين أكثر من ذلك الذي اعتمدته باقي الأحزاب (حزب الله، حركة أمل، التيار الوطني الحرّ، ...).

واليوم تستمرّ الانتخابات الطلابية، وتخلق عند كلّ محطّة منها جوّاً إعلامياً، "إيجابيّاً"، إنّما يخلق بدوره إشكاليّات لا مجال للتهرّب منها، تحتاج إلى نقاشاتٍ مطوّلة لبلورة مواقف تجاهها. مواقف، وليس موقف، إذ من السذاجة إطلاق حكماً بالمطلق على مسألة بهذه الديناميّة، والجنوح من بعدها على إسقاط هذا الموقف على الجو الطلابي بكليّته.

من خارج إلى داخل الحركة وتشعّباتها...

قد يتعجّب البعض إذ تكلّمنا عن نقد لما حقّقته الحركة الطلابية مؤخّراً، فهي، للمتابع من خارج، قد أنجزت "انتصاراً تاريخياً" و"انجازاً عظيماً" و"أعادت الأمل بالجيل الشاب" الخ الخ... وهذا صحيح، نسبيّاً، وهذا ما لا يجب التفريط به على حساب الأهواء الذاتية من داخل الحركة نفسها. وهذه اللحظة الأولى من المسألة، أي من جهة الرأي العام، أو في سياق الجواب المُقتَضَب إن نقلنا الأمور لشخصٍ يتابع من بعيد وأراد معرفة آخر الأخبار سريعاً: "ماشي حالهم الطلاب، عم يشتغلوا شغل حلو".

أمّا اللحظة الثانية من المسألة، فهو النقاش، الذي غالباً ما يأتي محتدماً، بين متابعي الحركة عن كثب والمشاركين فيها – نتكلّم هنا عنهم باعتبارهم من الجهة نفسها، وسنسلّم جدلاً أنّها تتلخّص (بأكثر الأشكال عموميّةً) بمعارضة أحزاب السلطة. وهذا التعريف بنفسه (ضد أحزاب السلطة) نقطة ضعف للحركة، إذ أنّها ما زالت تُحَدَّد بالضدّ، بمعارضة الموجود، وما زال نقيضها هو محور خطابها دون أن تبلور بعد خطاباً ذاتياً. إنّما أيضاً، منطق "المعارضة" هذا متشعّب، يقف حيناً عند هذا السقف ويتخطّاه أحياناً، يبدأ من الإصلاحي، إلى ذلك الذي يعارض النظام من داخل النظام نفسه، إلى المُعارِض من خارجه، إلى النقيض الراديكالي... وهذه تباينات ظاهرة داخل الحركة الطلابية، غائبة عن خارجها. فالمنظَّم في حزبِ سلطة يضعنا جميعنا، من النيوليبرالي إلى الأناركي، في السلّة نفسها. وهذا بدوره جيّد، فهو يدلّل على عقم النقد لدى هؤلاء، وهي ممارسة تحرص أحزابهم على تعميمها.

في التوجّه الليبرالي..

بطبيعة الحال، تضمّ الحركة الطلابية تباينات عدّة من حيث خطاب مكنوناتها، إلّا أن ما طغى من بينها في المحطّة الأخيرة، كان التوجّه الليبرالي، مع الإشارة إلى كونه أنضج من الأعوام السابقة. طبعاً، لا يندرج الموقف منه ضمن عنوان "عدو عدويّ صديقي"، فلا يكفي أن يعارض التوجّه الليبرالي أحزاب السلطة كي يصبح صديقاً للتوجّهات الأخرى، تحديداً اليساري. لكن الموقف هنا ينقسم بدوره إلى لحظتَين؛ في اللحظة الأولى منه، لن أحزن إن تمكّن هذا التوجّه من فرض معركة في وجه أحزاب السلطة، أي، لن أحزن إن انتقلنا من مجلسٍ طلابيّ "طائفي"، إلى مجلسٍ "علماني"، أو أقلّه "مدني" – مع الإقرار الكامل، وهذه اللحظة الثانية، بأنّ هذا لا يمثّل سقف طموحاتي، ولا حتى الحدّ الأدنى منها. فالمقاربتَين (اليسارية والليبرالية) مختلفتَين بنيويّاً، وإن انطوَت على بعض التقاطعات. إلّا أن الأكيد، أنّه وبالمقارنة مع الوضع القائم، لا مع طموحاتنا، ما حصل جيّد. ولكن الأكيد أيضاً، هو أن خوض معارك ضدّ النظام على أساس أنّنا مدنيّين أو مستقلّين أو حتى علمانيين فقط، لم يعد كافياً، أقلّه ما بعد 17 تشرين.

في عدم صلاحية المصطلحات "المحايدة"...

مستقلّ، معارض، مدني، علماني... وغيرها، كلّها جيّدة، إنّما تعتريها 3 مشاكل أساسيّة. ونعتبرها هنا "مشاكل" لأنّ الظرف السياسي، نضوجه من جهة وسوء الحالة المترتّبة منه من جهة، يستدعي وضوحاً ومباشرةً أعلى في طرح المسائل، وأي محاولة لتلطيف الموقف السياسي الذي يخوض المعركة الاجتماعية في وجه النموذج القائم، أكان تلطيفاً عفوياً أم لا، بات ينضوي اليوم على ضرب من الرجعية، أو بالأقل على نزعة محافِظة، أمسَت ما دون سقف المواجهة المرسوم إثر انتفاضة 17 تشرين. من هنا، اعتماد هذه المصطلحات اليوم بات خطوةً للوراء، بينما كان في السابق (2011 مثلاً) خطوةً تقدميّةً للغاية.
المهم، في عرض هذه المشكلات الثلاث:

1- في أنّ بعض هذه المصطلحات تتحدّد بالضد فقط، دون أن تُحَدّد بذاتها.
2- في أنّ بعض هذه المصطلحات، أساساً، حَمّال أوجه. مثلاً، قد يكون المَدني "رجعي"، وقد يكون المستقلّ "محافظ"، وقد يكون العلمانيّ، أحياناً، "طائفي"...!! نعني أن هذه المصطلحات بذاتها، إذا فُسّرت بأوسع شكل، قد تحمل صفات غير ثورية، وقد يكون من نُعارضه يحمل أيضاً بعضاً من هذه المصطلحات.
3- وهنا الإشكالية الثالثة، والأهم، في أنّ هذه المصطلحات بذاتها لا تُحدِّد برنامجاً. أنتَ مدني، عظيم، شو البرنامج؟ ما هو الموقف من كذا وكذا... كلّ هذه الصفات صفات ثانوية، المطلوب اليوم خوض المعارك وفق التعريفات الأساسية، شيوعي؟ يساري؟ وسطي؟ ليبرالي؟ ما بين بين؟ رجعي، محافظ، تقدّمي...

في مروحة الخطابات المستقلّة...

الخطاب "المستقل"، كي لا نظلم أحداً، يتضمّن كلّ الصفات المذكورة. ففي الانتخابات الحالية، تباينت التوجّهات بين نقيضَين، وقد نجد ضمن المستقلّين نفسهم والنادي نفسه، 1) من يريد أن يبتعد عن السياسة، "ما بدنا نحكي سياسة، السياسة خربتنا، والحق على السياسيين الفاسدين الأشرار، بدنا نعمل ثورة ونخلص منهم، خلص وقت الأحزاب" وكل هذا اللَّعي الطبقة - وَسَطيّ، إلى أن نجد 2) من يقول بأنّ "مسألة الأقساط مسألة سياسيّة بالأساس، وأن الجامعة والمنظومة متّصلَين، ومعركتنا ضدّ المنظومة التي تَخطّ هذه التوجّهات السياسية لا ضدّ أفرادها فحسب، وعملنا تراكمي...". وهذا التباين موجود بالفعل، المشكلة (أو الجيد؟) أنّه موجود في النادي نفسه. هنا أيضاً يصبح الكلام عن لحظتَين، الأولى في تحديد مروحة الخطابات الموجودة، أما الثانية ففي موقعها بعضها من بعض، أي في علاقة الهيمنة ما بينها. وهنا أيضاً مقاربتَين، في من يقول أن وجود المقاربتَين في النادي نفسه من شأنه أن يُثوّر المقاربة التسطيحية، ومن يقول بأنّ تلك الأخيرة من شأنها أن تسطّح المقاربة الثورية. وهنا لا حُكمَ مطلق، بل هذا يخضع بدوره لدينامية البنية الاجتماعية داخل وخارج الحركة الطلابية. وهنا تقع المسؤولية، ضمن النوادي هذه، على من يضعون نفسهم بموقع الثوري، ليغلّبوا المقاربة الأولى على الثانية، وإلّا ذابوا في الموجة الليبرالية.

في سطحية التَماثل...

إلّا أن المشكلة ليست حصراً هنا. هذا التنوّع جيّد، المشكلة بمنطق التماثل الذي يطلق مقارباته بدءاً من النتائج النهائية للانتخابات الطلابية. أي المنطق الذي يسحب النتيجة المحقَّقة في هذا الميدان على ميدانٍ آخر بشكلٍ آلي، ميكانيكي، غير جدلي، ويعتقد أن تحقق نتيجة هنا يستتبع تحقّقها هناك، بالشكل ذاته، بتماثل الشكلَين. نقصد هنا 3 مستويات أبدع فيها هذا المنطق، في استخلاص العبَر من المعركة الطلابية، تحديداً بمنحاها الانتخابي – إذ أساساً، هنا يُكَثَّف المنطق الليبرالي الّذي يرى في الانتخابات حلّاً لكلّ الإشكاليات، فكان التماثل:
• على مستوى باقي المعارك الطلابية الانتخابية: في القول مثلاً أنّ النتيجة ستكون مشابهة إن كان ثمّة انتخابات في الجامعة اللبنانية. وما هذه سوى نكتة طريفة، تدلّل على أن قائلها لا علم له بمكنونات الجامعة اللبنانية، إلّا أن حكمه أتى من مماثلة المسألتَين. طبعاً لا نقول هنا ألّا حظوظ للجو المعارض إن حصلت انتخابات في الجامعة اللبنانية، لكن المسألة ليست بهذه البساطة.
• على مستوى انتخاباتٍ أخرى: وهذا محض "وهم انتخابَوي"، في اعتبار أن الانتخابات النيابية ستعكس نفس النتائج وأيضاً الذهاب إلى إطلاق الحكم القائل بألّا انتخابات نيابية مبكرة لأن السلطة تعرف ما ينتظرها. عزيزي، الانتخابات النيابية المبكرة كانت لتكون مقتل الانتفاضة إن حصلت. ناهيكَ عن مسألة القانون الانتخابي.
• على مستوى المجتمع: وهنا الإشكالية في الحكم العاطفي والمنسلخ عن الواقع القائل بأنّ "الشباب اللبناني أصبح واعياً"، (عدا عن الشطحة النخبوية التي تُجهّل الشباب نسبةً من موقفهم من الانتخابات) هو قول يغفل من جهة عن قراءة الفئات العمرية في المجتمع بشكلٍ علمي. لا نقصد هنا نفي الحالة الشبابية الثورية في البلد، فهي محتدمة أكثر من حقباتٍ سابقة، إلّا أن الجمهور الشاب لأحزاب السلطة ليس بهذه الهامشيّة. كما أنّ لا مجال للمقاربة بين هذه الفئة داخل الجامعة وخارجها، حيث شبكة العلاقات الزبائنية تختلف كمّاً ونوعاً.

في العقبات الموضوعية والذاتية أمام الخطاب اليساري...

طبعاً، تمحوَر الحديث حول المقاربة الليبرالية كونها كانت، كما ذكرنا، الغلّابة في الجَو العام. إلّا أنّها لم تغلب لجهدها في الأعوام السابقة فحسب، بل لغياب الجهد الملموس للمقاربات الأخرى، أهمّها، تلك اليسارية. ولهذا الغياب أسبابه الموضوعية والذاتية، نعود لها في مقالٍ لاحق، إذ لم يبقَ من مجال لتوسيعها هنا...