تجديد آلية الخطاب لكسر وحدة النخب

عادةً ما تخاطب النخب الناس مستعملين خطاب صعب يعكس ثقافتهم هم لا ثقافة العامة. يطغى المنطق والحجج العقلانية على خطاب تلك النخب دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء ايصاله الى الناس، فيبدو الخطاب حينئذٍ متقوقع ضمن جدران أربعة. والفكرة، مهما كانت جوهرية وثوريّة، يوم تقبع في زاوية بين النخبة، لن تتحوّل إلى قوّة مادية. وهنا يجدر البحث في كيفية إيصال الفكرة.

  

ينقسم الاتصال السياسي إلى ثلاث فئات، الشكل الحواري، النموذج الدعائي والتسويق السياسي. الحوار هو الشكل الأول للدعاية، وقد ظهر خلال عصر الأنوار بين القرن السابع والثامن عشر، يقم النقاش بالمعنى المزدوج لتبادل الكلمات والمنطق، وهو الممثل الشرعي للتواصل السياسي. يشترط على اللاعبين أن يكونوا أفراداً عقلانيين، أحراراً ومتساوين. وتفترض العقلانية وجود السبب لتبادل الآراء مع الآخرين. هو ليست محاولة إقناع بقدر ما هو افتراض أن الأسباب التي بُنيت عليها قناعة طرف، يمكن أن تكون بدورها تلك الخاصة بالطرف المقابل. وتتطلب هذه العملية تشارك القدرة على تشكيل الأفكار والقناعات.

كما هناك حاجة إلى القدرة على صياغة خطاب صالح عالمياً، بمعنى أن يكون مفهوماً من الجميع، وهو غالباً ما يكون خطاباً عاطفياً لأن صحة محتواه متطابقة للجميع. أما حرية المحاوِر، هو قدرته على التحكّم بنفسه، مع الحفاظ على التمييز بين العام والخاص، بين العقلاني والعاطفي.

 تتمثّل المساواة هنا في حقيقة أن الكفاءة في التحدّث أو فهم الفكرة، كافية لكلّ فرد، وهي كافية لتأسيس إمكانية عكس أدوار الاتصال السياسي (علاقة المرسل / المتلقي). بفضلها، يمكن لكلّ منهما أن يأخذ مكان الآخر بالتناوب اعتماداً على تبادل الحجج.

لا يتمتع النموذج الدعائي أو البروباغندا، بشرعية قوية مثل الحوار، فهو نوع من اللاهوت السياسي. ظهرت البروباغندا مع إنشاء الفاتيكان Congregatio de Propaganda Fide في عام 1597. وحافظت على المعنى الديني المباشر حتى بداية القرن العشرين. علمنة محتوى الدعاية بدأ مع ظهور الأحزاب الجماهيرية، لكنها حافظت على الشكل الديني، إذ تقوم بالفعل بتنظيم اتصالاتها من خلال التظاهر بأنها المثال الخيّر، وتدور حول الروايات السياسية العظيمة، خاصة الأيديولوجيات. ترتبط قناعة الدعاية بالإيمان، والاعتقاد، وفي أي حالة من حالات اليقين، هي غير القابلة للجدال. الفضاء السياسي الذي يفترض نموذج الدعاية هو مجتمع المؤمنين والعقائدي، الذي يتشكّل من خلال اعتناق الكلمة أكثر من كونه من خلال الاستماع. البعض يتكلم والبعض الآخر يستمع. هناك تسلسل هرمي واختلال في الأدوار.

تستهدف الدعاية العواطف بسهولة أكثر من العقل، وتهدف إلى خلق شعور بالالتصاق، بدلاً من توفير عناصر الاختيار. يفترض نموذج الدعاية، في الواقع، أن العقل ليس هو المستوى المناسب للتواصل السياسي، ولكن هناك من خلال العقل طبقة نفسية تأسيسية من المعنى أعمق وأكثر تحديداً.

يهيمن اليوم التسويق السياسي على التواصل السياسي، وهو أحد الاستجابات التي قدّمتها الرأسمالية لمشكلة توسيع أسواقها، والتي أصبحت ضرورية بسبب قيود المنافسة. ويقوم التسويق على إعادة صياغة السوق في الداخل. بمعنى، أن السوق بات تجمُّعاً لمناطق مختلفة، ما يُعرّفه "التسويقيون" .. بـ "شرائح". يتميّز كلٌّ منها بطلب معيّن ومتميّز عن القطاعات الأخرى. التمثيل الذي يشرف على عملية إعادة تعريف السوق هو أن مجال الاحتياجات يتميّز بتنوّع أساسي. لا يطلب الجميع نفس قيمة الاستخدام، ونفس المنتج. يتطلب كلّ قطاع من قطاعات السوق نسخته الخاصة. وبالتالي، طبّق التسويق سلسلة من المعايير لتقسيم الجسم الاجتماعي، من أجل تحديد الطلب بشكل أفضل وتحديد الأسواق بشكل أفضل. هذا هو السبب في أن تطوير التسويق مرتبط بالاستطلاعات، كتقنيات لوصف الجسم الاجتماعي عن طريق التجزئة الاجتماعية. في أعقابه ظهرت أيضاً تقنيات المزيد من التحليل النوعي، مثل علم اجتماع أنماط الحياة، وأنماط المحيط التي طوّرتها المنظّمات المرتبطة بوكالات الإعلان.

يتمّ تحديد الفرد المستهدف عن طريق الاتصال السياسي واستهدافه وفقاً للتسويق، من خلال شريحة اجتماعية، ومن ناحية أخرى يتمّ استثماره جزئياً ومشاركته في السياسة. من هنا يُجزّأ الجمهور ويتمّ دراسة كلّ فئة وتقديم ما يناسب أنماطه ورغباته.

المشترك بين فئات التواصل هو اللعب على البعد العاطفي، وهي سِمة أساسية للجماهير، التي تُعتبر تجمّعاً عاطفياً لأفراد حول فكرة أو قضية أو فرقة موسيقية... لا يجد الخطاب العقلاني مكاناً له يوم تخاطب الجماهير، من هنا يمكن قراءة كيفية تحرّك الجماهير إثر الأحداث الكبرى. يمكن تحليل الواقع علمياً، من قبل أي فرد، أما التحرّك جماهيرياً فهو ردّة فعل عاطفية، لحظة يذوب الفرد في المجموعة وتتحوّل قوّة المجموعة إلى قوّة الفرد، وتتضخّم قدرته من المجاهرة برأيّه، إلى القتل بهدف تحقيق هدفٍ مرجوّ.

لا يمكن تبنّي نموذجاً للتواصل دون ما غيره، دون العودة إلى الواقع العام، وطبيعة الجهة المتحدّثة. يقول المسرحي والصحفي عصام محفوظ "اليوم مذ حسم الصراع مرحلياً لمصلحة النظام الرأسمالي والنموذج الواحد، فمن غير المجدي الاستمرار، في البلدان النامية، باستخدام لغة النضال السابقة... دون ذلك سيكون الإتصال صعباً والتلقي أصعب". التسليم بحتمية تفريغ الأفكار من بُعدها الاجتماعي والثقافي، يحوّل الفكرة إلى مجرّد آلية بيع وربح، في وقت يعيق الخطاب الجامد والعقلاني القدرة على الوصول إلى الشريحة الأكبر. لذلك، بات الحاجة ملحّة إلى إعادة قراءة آلية التواصل للنخب والحركات الثورية، لجمع الأشكال الثلاثة، في عملية إيصال الفكرة والتحايل على الهيمنة الفكرية والإعلامية للرأسمالية. وإلّا تظلُّ النخب تخاطب وتؤيّد بعضها البعض في ركنها الخاص.