مزارعي التبغ ما بين أفعى الحقل و ثعابين السلطة

تشكل قضية مزارعي التبغ اختصارا حقيقياً للواقع المزري الذي يتخبط فيه القطاع الزراعي في لبنان عموماً وذلك بفعل الإهمال المتعمد و نتيجة السياسات الخاطئة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا، ما أدى إلى تدمير ممنهج لكافة القطاعات المنتجة وفي طليعتها القطاع الزراعي، تلك القضية التي أضحت مشكلة متصاعدة ومأساة مستمرة الثابت الوحيد فيها يتمثل بانعدام أية حلول توحي في تبدل هذا الواقع ولو بعد حين، لا بل أنها تزداد تفاقماً وتزداد سوءاً على خلفية الأزمات التي تبدأ ولا تنتهي، سيما منها الأزمة المالية والاقتصادية بكافة انعكاساتها المدمرة على أوضاع الطبقة المسحوقة وذوي الدخل المحدود ، الأمر الذي راكم مزيداً من الأعباء على كاهل المزارعين لا سيما منهم مزارعي التبغ الذين يعانون أصلاً ومنذ نشأة زراعة التبغ في الجنوب والبقاع الغربي من سياسات التهميش و عدم الإهتمام بأوضاعهم الإجتماعية الصعبة وعدم الإكتراث لمطالبهم المزمنة في قضيتهم المحقة وصولاً الى التخلي عنهم كلياً وتركهم لقمةُ سائغة في مواجهة طواغيت الهيمنة والاستغلال المتمثلة بالراعي السياسي أولاً وشركة الريجي ثانياً وما يسمى نقابة مزارعي التبغ ثالثاً.

 

فالراعي السياسي من جهته كفّى و وفّى في ابتداع خططه الآيلة الى تكريس نفوذه والتمسك بامتيازاته المكتسبة خلافاً للقوانين في سبيل تأكيد زعامته وديمومة مرجعيته التي يعززها من خلال الرشاوى والمنافع الشخصية خدمةً للمحسوبيات وعلاقاته الزبائنية، لذا فهو ماضٍ بسياسة اخضاع الفئات المسحوقة والتحكم بمصادر عيشها من خلال وضع اليد على مؤسسات الدولة ومرافقها المنتجة ان هي وجدت عملاً بسياسات المحاصصة المتبعة من قبل كافة مكونات الطبقة الحاكمة وهذا ما حصل في احتواء ادارة الريجي بكافة منظومتها والحاقها بأحكام الوصاية الكاملة لحساب إحدى الجهات النافذة جنوباُ والتي تجلت وصايتها بأشكال عديدة بدءاً بتعيين المدير العام مروراً بالادارة بكافة أقسامها ولوائح الموظفين الذين تعجّ بهم مكاتب الريجي في مختلف المناطق اللبنانية وليس آخرها التدخل المباشر والعلني في تحديد السياسات المعتمدة وآليات عمل الادارة وأساليب توزيع التراخيص، إلخ...

 

في السياق لا بد من تعريف ماهية شركة الريجي المخولة ادارة حصر التبغ والتنباك على الأراضي اللبنانية بموجب عقد الشراكة المبرم مع الدولة اللبنانية منذ جلاء الانتداب الفرنسي عن لبنان حيث كانت تلك الشركة واحدة من أدوات الانتداب آنذاك في مهمة إستثمار خيرات البلد ونهب ثرواته، فقد حازت على امتياز يعطيها كامل الحق في ادارة قطاع التبغ وكل ما يمت اليه بصلة من زراعة وتصنيع وتجارة واستيراد و تصدير حصراً ودون منافسة من أحد، في المقابل تستوفي الحكومة اللبنانية بعض الرسوم الجمركية وبعض الضرائب عملاً بمضمون العقد المبرم تحت عنوان المنفعة المتبادلة ما بين شركة الريجي و الدولة اللبنانية غير أنها وفي واقع الحال فهي ماضية في إستثمار قطاع التبغ دون حسيب أو رقيب وبدون أية مساءلة من الجهات الرسمية و تحولت الى حد كبير كمؤسسة خاصة تعمل على مضاعفة أرباحها ومراكمة أرصدتها التي بلغت في العام 2018 ما يقارب 800 مليار ل.ل أي ما يعادل 500 مليون $ في حينها، ضاربة بعرض الحائط كل ما يترتب عليها من مسؤوليات اتجاه آلاف المزارعين الذين كانوا وما زالوا منذ نحو 100 عام ضحايا الاجراءات التعسفية التي تتنكر لأي شكل من أشكال العلاقات العادلة وانعدام أي تعريف لتلك العلاقة المتداولة على مدى عقود من الزمن، سواء أكانوا هم عمال أو أجراء مياومين أو متعاقدين أو أنهم أصحاب مهنة حرة وبالتالي لا تلزمهم أية اجراءات تصدر عن شركة الريجي فمن المؤكد أن ذلك جرى بغية التنصل من أية التزامات موجبة بدفع التعويضات وآلية تحديد الأسعار وكيفية استلام المحاصيل و تزويد المزارعين بالخبرة والارشادات و الأهم من كل ذلك الحاق المزارعين بالضمان الصحي والاجتماعي.



في ما يتصل بدور النقابة  والمسماة زوراً نقابة مزارعي التبغ في لبنان فحدث ولا حرج، هي في واد والمزارعون في واد آخر ومعلوم تموضعها الى جانب بعض أطراف السلطة وهي تجاهر بولائها هذا في كل المناسبات و تتماهى كلياً مع اجراءات الريجي بكل ما يضمن مصالحها واستمرار سطوتها وضمان استثماراتها الغير مشروعة أحياناً، كما أنها تمارس أفعالاً مغايرة تماما لموجبات مهامها المفترضة وتعمل أقصى ما بوسعها من الضغوط على المزارعين للحؤول دون أية احتجاجات ضد الادارة ولو بأبسط حدودها التعبير عن المعاناة أو المطالبة بحقوقهم المهدورة و أتعابهم المنهوبة ناهيك عن تلفيق أخبار مغرضة تفيد بأن الشركة مستمرة باستلام المحاصيل فقط لمساعدة الأهالي وهي متضررة وتعاني الخسائر الجسيمة جراء ذلك، وليس آخرها كلاماً شعبوياً تطلقه عبر وسائل الاعلام بقصد التضليل فقط أن هناك مساهمات مالية تضاف الى الاسعار المتداولة في استلام المحاصيل هي بمبادرة واصرار من قبل الراعي السياسي لدعم المزارعين و تحسين ظروف عيشهم في حياة كريمة لهم ولعوائلهم، بيد أن ما يقال هو شيء وواقع الحال للمزارعين هو شيء آخر، فهي غائبة منذ ثلاثين عاماً وتحديدا منذ تمت مصادرة النقابة و تدجينها في اطار أدوات المحاصصة التي عملت على تفريخ النقابات بهدف تشكيل أكثريات يتم من خلالها وضع اليد على الاتحاد العمالي العام.

 

أين هي تلك النقابة من قضايا المزارعين ومتى كان المزارعون أولوية مدرجة في جدول أعمالها ؟

أين هي مواقف النقابة المنادية بمطالب المزارعين وهل المتنفذون على رأس النقابة يدرون ما هي زراعة التبغ؟ وهل يصغون لمطالب المزارعين؟

أين هي من تحديد ملكية التراخيص وحصرها بالمزارعين الفعليين والغاء التراخيص الرديفة التي تستثمر بأتعاب المزارعين الفعليين ؟

أين هي من استلام كامل المحاصيل والغاء قرار الاادارة الظالم القاضي بتحديد الكميات المستلمة من المزارعين الفعليين بهدف الابقاء على جزء من المحصول رهن التلف أو الاضطرار لبيعه بأسعار متدنية لأصحاب التراخيص الرديفة أي المزارعون الوهميون؟

أين هي من الأسعار المتداولة التي تراجعت من 8 دولارات للكلغ الى دولار واحد وفرض تعديل الأسعار بما يتناسب وغلاء المعيشة وتدني القيمة الشرائية للعملة الوطنية؟

أين هي من المصارف التي خدعت المزارعين بعروضها المغرية عام 2000 حين سلفت المزارعين قروضا بقيمة محاصيلهم وبفائدة متدنية قدرها 2.5% في حين استجاب الآلاف من المزارعين لتلك القروض تم رفع الفائدة في العام 2004 الى 16% ، فأمسى المزارعون من خلال تلك القروض رهينة للمصرف عاجزين عن سدادها و مرغمين على دفع الفائدة؟

أين هي من الحاق المزارعين بالضمان الصحي والاجتماعي ؟

أين هي من التعويضات والمساعدات العينية التي تأتي كهبات دعماً للمزارعين وتصادر من قبل ادارة الريجي ويتم التصرف بها دون علمهم؟

أين هي من اجراءات الادارة الظالمة في اقتطاع أجزاء من المحاصيل أثناء التسليم بذريعة عديم النفع؟

أين هي من كذا وكذا.... واللائحة تطول وتطول ؟



آلاف من العائلات اللبنانية العاملة في مهنة زراعة التبغ وشاء قدرها الإقامة في الجنوب والبقاع الغربي كما شاء قدرها بأن تكون أمام خياران كلاهما أسوأ من الآخر، خيار مواجهة العدوان وخيار مواجهة الحرمان.

في الخيار الأول واجهت تلك العائلات أشكال الترهيب من خلال الاعتداءات التي مارسها العدو الصهيوني على مدى عقود من الزمن إبان احتلاله للجنوب سيما داخل الشريط الحدودي حيث كانت عرضة للتهجير والقتل والتنكيل وإلحاق الضرر بمزروعاتها وخسارة مواسمها في كثير من الأحيان ، إلا أنها صمدت وجسدت أبهى صور الثبات وبقيت تتشبث بأرضها وتزود عن حقولها متسلحة بارادة صلبة وقناعة راسخة وهي تمارس عملها غير آبهة بما يترتب على مواجهة العدوان واستمرت تحرث أرضها وتزرع غرسها وتجني مواسمها وتوضب محاصيلها وما ترددت يوماً في تضحياتها فقدمت العشرات من الشهداء في مواجهة الاحتلال على غير صعيد وصعيد.

 

وفي الخيار الثاني تحملت تلك العائلات وزر غياب الدولة بكافة مظاهرها وبقيت مصرة على البقاء والصمود متأملة في رهانها على قيام الدولة الوطنية العادلة، دولة الانماء والرعاية الاجتماعية، دولة تحترم كرامة مواطنيها وتصون حقوقهم وتؤمن لهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة الحرة والعيش الكريم.

 

هؤلاء هم مزارعو التبغ الذين احترفن تلك المهنة وتوارثناها جيلاً بعد جيل فجمعتهم شتلة التبغ حتى غدون وجهان لعملة واحدة ، المرارة والحرمان.

هؤلاء هم مزارعو التبغ الذين امتهنوا التعب والشقاء دون كلل أو ملل وعانوا القهر والاذلال وترافقن سوية في رحلة عذاب لا تنتهي فصولها أبداً.

هؤلاء هم مزارعو التبغ الذين عاصروا حقبة الانتداب الفرنسي فكانوا عرضة للاستغلال تارةً على يد أزلام الأقطاع السياسي المرتهن بولائه للمحتل وطورا على يد المرابين وكبار مالكي الأرض الذين استحوذوا على تراخيص مزاولة الزراعة واستثمروا في اتعاب المزارعين بارغامهم على العمل في حقولهم وأراضيهم كأجراء يعملون مقابل حصولهم على قوت يومهم.

 

هؤلاء هم مزارعو التبغ لديهم رزنامتهم ولا يتقن تواريخها إلا هم، كافحوا في سبيل لقمة العيش و ناضلوا من أجل العيش بكرامة، تمسكوا بأرضهم ودافعوا عن وطنهم وقدموا الشهداء في سبيله فغدوا عنواناً للصمود ورمزاً للمقاومة.