الغول والتاريخ

في سياق كتابة تاريخ الشعوب، مهما فنّدت الرواية تاريخ القمع والقهر والاستغلال وتفاصيله، تكون السردية منحازة للاستعمار والنظام المهيمن، إن لم تكتُبْ عن المقاومة التي نشأت في ظلّ هذا النظام. وفي يومنا هذا، لا حدود للمقاومة، أي لا حدود للمجالات التي تعمل المقاومة من خلالها، لأنّ لا حدود للرأسمالية. ونحن نعلم ذلك، علمَ اليقين، وعلمَ التجربة.

وفي حين أنّنا في كل آب منذ العام 2006 نستذكر حرباً علينا وعلى وجودنا كشعوب هذه المنطقة، نعي أيضاً بأنّها ليست آخر الحروب، ونراها تُستكمَل علينا في الداخل. فالحرب التي يشنّها علينا النظام هدفُها أيضاً نهب ثرواتنا والقضاء علينا، عاملات وعمّال ومُهمّشات ومهمّشين ولاجئات ولاجئين...
اليوم، يخسر الموظفون تعويضَهم، يُجبر الطلّاب على الدراسة في جامعة وطنية مُهملة، يموتُ الفقراء دون دواء، تتزايد أعداد الإصابة بالسرطان وبأمراض عديدة سببها التلوث. اليوم، يفترشُ نساءٌ ورجالٌ شوارعَ بيروت، في الشمس وفي المطر وفي عراء الوطن الذي لا يريدهم، لأنّه امتصّ جهدَهم لسنين، يُطعم منه زعماء الأحزاب وحاشيتهم، ويرميهم في الشارع حينما تعبت زنودهم عن الحمل. الدولة، وبكلّ بساطة، تقتلنا. فالطبقة الحاكمة لا تتوانى عن القيام بأيّ شيء من أجل الربح. وعندما نقول بأنّ الرأسمالية في أزمة، فهذا بالضبط ما نقصده: هي استشرست لأنها أكلت كلّ ما في بيدرها وبيادر غيرها، وحرقت ما لم تستطِعْ نهبَه. اليوم، تتغوّل السلطة في ضرب مصالحنا وحقوقنا ومعيشتنا. هي تتغوّل في خنقنا وقتلنا يوميّاً، بكسّاراتٍ ومطامرَ ومحارقَ ومعاملَ ومياهٍ ملوّثة.
تغوّل السلطة يعني أنّها لن تتراجع قيد أُنملة عن مواقفها وخططها ومشاريعها. فهل نتراجع نحن؟ هل ننتظر الموت في بيوتنا في وهم الأمان والعبثية؟ نتكلّم هنا عن أنفسنا كشعوب لم ترضَ بالاحتلال، فلماذا ترضى اليوم بالموت ولو جاء من جهة أخرى؟
النفايات تقتُل كما القنابل، بمفعولٍ أبطأ قليلاً، وبيدٍ خفيةٍ أحياناً. ومقاومتنا لها هي كتابتنا، مرّة أخرى، لتاريخنا.

 

  • العدد رقم: 363
`


النداء