متى نبدأ بتأسيس الدولة الوطنية؟

النظام التحاصصي مشغول بدقة، وممسوك من أطرافه السياسية والطائفية حتى الخناق. ويعاد إنتاجه بحصص مختلفة تبعاً لموازين القوى الدولية والإقليمية المتدخلة في الشأن اللبناني الداخلي. لكن، ومنذ تأسيس لبنان الكبير قبل قرن من الزمن، فإن مكونات عناصر قيام الدولة من حيث هي دولة المؤسسات والهيئات وفصل السلطات والإدارة وتنظيم العلاقة مع المواطنين، بقيت خارج التشكل الدولتي بالمفهوم السياسي-المواطني إلى حد الآن.

وتجربة تفعيل دور الدولة تتجدد مع كل عهد، بحيث يستفيض الخطاب حول أهمية دور الدولة وإعادة تفعيل حضورها وهيبتها، لكن تفتقد الخطابات دوماً لتطبيق الدستور اللبناني وقيام الدولة حتى يتم تفعيل دورها.

وإذا اعتبرنا أن "دستور الطائف" لعام 1989 يشكل قاعدة الانطلاق، فإن بعض مواده ممنوعة من التطبيق لإعتبارات سياسية وطائفية. على سبيل المثال لا الحصر، فإن المادة 95 منه والمتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية، موضوعة للتزيين وليس للتطبيق. بل إن الاجتهادات السياسية في تفسير النصوص متعددة ومعقدة، مما يجعل من المستحيل تعديل مادة ما وفقاً لنصها الدستوري. وبالتالي، فعند كل خلاف ينشأ بين أطراف الحكم حول مسألة سياسية مصيرية، تحضر بسرعة البرق الحسابات الطائفية والحصص، ويدخل البلد في حالة لا توازن واستنفار للعصبيات الطائفية والمذهبية، وسحب سلاح "الميثاقية الطائفية". وعندما يتم التوصل لصيغة توافقية طائفية-سياسية ما، تحل مؤقتاً عقدة الخلاف وكأن شيئاً لم يكن، في وقت تشتد الخلافات بين رعايا الطوائف وتتعمق. فأخوية المصالح الطائفية والطبقية تتقدم ارتباطاً بمفهوم تأبيد الدولة الطائفية وليس بتأسيس الدولة الوطنية. لذلك، فإن الميثاقية هنا تخدم هذه الخلفية بصفتها المفتاح السحري لإبقاء سيطرة القوى القابضة على الحكم.

والاستنتاج هو أن أزمة النظام تتعمق ونتائجها الكارثية تتواصل على كاهل فئات الشعب اللبناني المفقرة وعلى المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية كافة. وفوق ذلك، فإن قضية سرقة أموال المودعين ما زالت بين حيص بيص ودراسة وتنازع من دون صعود الدخان الأبيض إيذاناً بإعادتها إلى أصحابها، ولا سيما صغار المودعين الفقراء الذين خسروا مدخرات حياتهم.

اليوم، وبفعل الاعتداءات الصهيونية اليومية ومحاولات الضغط على لبنان لجره لبدء مفاوضات مباشرة بهدف التطبيع، ومنع أهلنا في الجنوب من العودة إلى قرارهم وأرزاقهم وإعمار بيوتهم من جهة، وبين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة من جهة ثانية، والانقسامات السياسية الداخلية الوازنة حول مفهوم نزع سلاح المقاومة والإعمار ودور الدولة في الدفاع من جهة ثالثة، يعيش الوطن والشعب مرحلة استثنائية صعبة من دون أفق لحلول قريبة. في وقت يتقاذف أهل السلطة التصريحات والتهديدات حول كيفية حق المغتربين في الانتخاب ووفق أي قانون! والعين طبعاً على دفتر حسابات المقاعد النيابية، من يكسب مقعداً إضافياً أو أكثر لهذا الطرف أو ذاك من بلاد الاغتراب. فحيز هذا الموضوع يكاد يطغى على كل شيء، ما يوضح من دون لبس أن اهتمامات أهل الحكم في واد، ومصائب الشعب في وادٍ آخر. حتى أن الصمت سيد الكلام حول أساس القانون الانتخابي الطائفي المعتمد للانتخابات القادمة المفترضة في أيار 2026، وعنوانه "راوح مكانك ولا مكان للتغيير".

يعني، أن المسألة برمتها عبارة عن "لهاية" لتقطيع الوقت بخلافات جانبية لتمرير القانون الانتخابي السابق الطائفي بدوائره الـ 15 من جهة، وإسكات شعبنا والضغط على جرح أوجاعه وفقره وتهجيره ومرضه وطبابته وسكنه... لذلك، فإن الحديث عن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، لا يمكن أن يكون مع أرباب هذا النظام السياسي-الطائفي الذين يديرون لعبة المصالح الطبقية من خارج الدولة. فالعائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية هي دولتهم بعباءة طائفية تحت غطاء "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية".

لذلك، ترى المرجعيات السياسية الطائفية في طرح قانون انتخابي ديمقراطي عصري يقوم على النسبية والدائرة الوطنية الواحدة خارج القيد الطائفي، الخطر الحقيقي الذي يهدد امتيازاتها الطبقية وسلطتها الطائفية. فتلجأ في كل دورة انتخابية إلى التهرب من تطبيق مقدمة الدستور، الفقرة (هـ) "النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها"، والفقرة (ح) "إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية".

وتخالف نص المادة (22) "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية". وكذلك نص المادة (95) "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية". وفي المرحلة الانتقالية:
أ - تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
ب - تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة. كل هذا التأجيل يأتي بحجة الظروف القاهرة وعلى حساب الشعب اللبناني.

لقد ثبت أن الطبقة البرجوازية التابعة بتكويناتها الطائفية وفسادها السياسي والمالي لا تقيم وزناً لتضحيات شعبها في الصمود والمقاومة، ولا لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية. ما يعني أن البقاء على تكرار التجارب سيؤدي إلى نفس النتائج. وما يعني أن السكوت على تسويات أهل الحكم السياسية الطائفية الداخلية أو الخارجية سيبقي الوطن على فوهة بركان متفجر، وستترك الشعب اللبناني عرضة لكل أشكال التمزق والفرز الطائفي والمذهبي، وتجدد الحروب. ولا سيما الخطر المستمر من العدو الصهيوني وراعيه الأمريكي.

من الضروري التنبه لدقة المرحلة، واطلاق حملة وطنية يسارية وديمقراطية سياسية وشعبية واسعة والضغط لإقرار "قانون انتخابي يقوم على النسبية والدائرة الوطنية الواحدة من خارج القيد الطائفي، مع كامل حق المرأة في التمثيل، وخفض سن الاقتراع للشباب إلى 18 سنة، والقانون المدني الموحد للأحوال الشخصية". إلى جانب طرح القضية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الوطني... وهذه قضايا مفصلية تشكل مدخلاً وطنياً لتحصين السلم الأهلي، وتعزيز مسيرة شعبنا في النضال الديمقراطي والمقاومة الوطنية من أجل "وطن حر وشعب سعيد".

هذا القانون يشكل اللبنة الأساسية في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ذات المهمات الوطنية المستقلة السياسية والدفاعية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية... تأسيس الدولة الوطنية المقاومة والمستقلة بجيشها وشعبها ومؤسساتها في مواجهة العدوان الصهيوني والتدخلات الإمبريالية والرجعية. دولة العدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة والمواطنة الحقيقية.