وصيّتي إليك! *

اسمع يا بني!
ها أن أكتب اليك، في مطلع العام الجديد، لأترك بين يديك وصيّة، هي كلّ ما يمكنني أن أعطيك إيّاه، إرثاً للغد، وزاداً للمستقبل، وذخراً قد تراه أمانة في عنقك، يوم لن تكون الدنيا عندك لهواً كلّها ، ويوم لن ترى الحياة عبثاً في زحمة الوجود...

ها أنا أكتب إليك، وأنت ما تزال طفلاً يلعب مع أترابه حيناً، ويتشاجر مع أخيه الصغير أحياناً...

هي الدنيا لك بأفراحها، والحياة بمسرّاتها... والكون هو كله في أمانيك، لعبة تحلم، وحلم رائع، يشّدك إلى عالم البهجة التي تتذوّقها ولا تفهم كنهها وتعيشها ولا تدرك سرّها...

هو حلم يجذبك بعيداً عن البحر الهائج الذي يلاطم سفينتنا الماخرة عبابه، المتهادية فوق لجته، والمضطربة أمواجه...

ايه بني... إن سفينتنا هذه، ستصل إلى الشاطىء، ولا مفر، أما إذا لم تصل ونحن أحياء، أنا ومن هم معي في القافلة، فعزائي الذي يضاهي لذّة الظفر، أنك ستكون أنت، ومن هم معك، قادة سفينتنا إلى الشاطىء،
حيث الغد الأرغد،
والعهد الأمجد،
والأماني الكبار،
يدغدغها حلم أسعد..

إسمع يا بني مرة أخرى، إننا نعيش في مجتمع، أنت غريب عنه الآن، لأنك لم تحمل هم الغد بعد، وأنت فيه مثلنا ولكنك بعيد عنه، لأنك لم تدرك مآسيه، وأوصابه، ولا عرفت عجائبه ومخازيه!...
إن نظامه مستنقع آسن،
تعفنت فيه القيم والأخلاق،
وخبثت فيه النوايا وانحطّت،
وعفنت فيه الأفكار وتفهت،
وتبدّلت فيه الشيم وسفلت،


إنه مجتمع، كثُر فيه الأنانيون، وتمجّد فيه الوصوليون، وتقدّس فيه المراوغون والمنافقون...

ولكن!.. إسمع يا بني ما سأقوله لك، وليكن كلامي دستوراً تعمل بموجبه، ودليلاً تسترشده ، وأمانة تعتز بها!..

أما كفاحنا، فهو من أجلك أنت، كي لا يكون في غدك مستنقع تعيش فيه القذارة، بأوصابها ورزاياها، بمآسيها وويلاتها، بمتاعبها وتفاهاتها...

أجل يا بني، إننا نكافح الآن كي لا يسقط المزيد من الناس في هذا المستنقع وإنّني لعلّي ثقة، بأننا إن لم نظفر بالأمنية الكبرى، نمهّد الدرب أمامكم، أنت وأترابك، يا من تحلمون ببراءةٍ ونقاء، حلماً ها نحن نكافح كي نجعله واقعاً لكم، واقعٌ من صميم الحقيقة، وواقعاً هو للإنسان الذي يجب أن يعيش حياته،
بلا خوف أو قلق،
وبلا ألم أو شقاء،
وبلا حقد أو رياء...

ايه بني... إن لم نفلح نحن في تجفيف المستنقع، وإن لم نطهّر هذا المجتمع من أوصابه، وإذا فرض الدهر عليّ وعلى أمثالي أن نخليَ الساحة كي تأخذ انت مكاني كما أخذت أنا مكان جدّك من قبل، فوصيّتي إليك، أن تقف فوق أرض المعركة، بقلب عربيّ صافٍ، وضميرٍ لبنانيّ حيّ، ووجدانٍ انسانيّ نقي، وفكرٍ تقدميّ نيّر...

وصيّتي إليك، أن تكون وفيّاً دون حقارة الأردياء، وذلّة السفهاء، ودناءة الذين يلبسون القناع...

وصيّتي إليك، أن تكافح بجرأة، وجدّ وأناة ، وأن تكون في جهادك مثلاً يقتدي به الآخرون، لا أن تكون واحداً يأخذ منه التعب فيتوارى أو ينال منه التشاؤم فيتخاذل، أو يحطمه اليأس فتسبقه القافلة...

وصيّتي إليك، أن تجاهد بإيمان لا تفلّه الصعاب، أو تزعزعه التخرّصات، أو تصيبه المستنقعات برذاذ أقذارها كلّما هبّت عواصف الأنانيّة، أو اسشرت لوافح الطمع والأحقاد والخساسة!

وصيّتي إليك، أن تكون طموحاً بشرف، وألّا تكون وصوليّاً، يرى الناس مطايا أنانيّته، ومرامي مطامعه!..

ايه بني... رجائي، ألّا تلبس قفازاً، أو ثوباً فضفاضاً، أو تغترّ بمظهر أو تخدع بقناع..
نعم، نعم، رجائي أن تصير ناقداً تنقد الآخرين، وأن تقبل منهم نقدهم، ولكن إيّاك أن تجعل النقد هواية، أو تصيّره وسيلة تحطّم بها إنساناً طموحاً، أو مناضلاً صدوقاً، أو ناشئاً أديباً!!!

واعلم يا بني، أنّ الناقدين أصناف، ولكن لن ترَ أحقر من ناقد يجعل النقد درباً يطأ فوقه أماني الآخرين!!
كُنْ ناقداً شريفاً، كريماً أبيّاً، متعالياً عن الصغائر، فالشرف سوف يبقى أبداً جوهر الانسان الطيب ، والمثالي في واقعيته وانسانيته !

وبعد، أوصيك أن تحتقر أكثر كثيراً، وأن تنبذ أبداً، وأن تكره دائماً أولئك الذين يتّخذون من المبادئ الانسانية، قناعاً ومطيّة، ومنفعة أنانية!..

أفهمت يا سعد؟ إن هؤلاء هم أبناء المستنقع الذي عنيت. أفهمت؟ إن الدهر قد شاخ.. فأخطأ معهم في حسابه، وعليك ألاّ تخطئ أنت في الحكم والتقدير.
نعم، كن على حذر، فأهل المستنقع كثر وأقنعتهم عديدة، ومراميهم بعيدة! كنّ على حذر، ولا تنسى أن الأقنعة وأن صنعها، لا يمكنها أن تخفي الحقيقة مهما ضؤل شأنها !..

وأخيراً ، لا أخالك ستنسى أن الجرأة، كل الجراءة، ألا تخاف من العواء، أو ترهب من درب كأداء...
والحكمة، كل الحكمة،
ألاّ تشفق على الأفاعي الرقطاء،
وإن لانت جلودها،
أو تقدّست أوكارها...

ودُمت لأبيك.

* تعيد النداء نشر هذا المقال الذي كان قد كتبه الراحل على شكل وصية إلى ابنه سعد بتاريخ 1 كانون الثاني من العام 1970.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 355
`


ميخائيل عون