لا المقاومة عادت مقاومة فعلية، ولا الدولة صارت دولة. في المقابل، العدو يسرح ويمرح، ينفّذ ما يريد، يوسّع اعتداءاته، ويكرّس وقائع جديدة على الأرض، فيما نحن عالقون في حلقة مفرغة من الخطابات، والتخوين، وتبادل الاتهامات، عالقون في إدارة نتائج العجز، لا في محاولة كسره.
الأخطر في هذه المرحلة ليس فقط غياب أي فعل مقاوم، بل الطريقة التي جرى فيها تطبيع هذا الغياب. فبدل أن يكون وقف إطلاق النار فرصة لمراجعة وطنية نقدية جديّة، تحوّل إلى مساحة لإعادة إنتاج الخطاب نفسه، مع تحميل أي صوت نقدي مسؤولية ما يجري، وكأنّ المشكلة ليست في غياب المشروع، بل في من يجرؤ على السؤال. وعليه لا يبقى أمام المواطن سوى الدفاع عن حقّه بالكلمة والموقف، بعدما جُرِّد من أي أداة فعل أخرى.
إدارة العجز عبر السردية
هنا، لا يعود الصراع سياسيًا فقط، بل سرديًا. ففي السياسة اللبنانية، لا يُدار الصراع فقط بالقوة، بل بالسردية. من يحتكر القوة يحتكر الرواية، ويحدّد ما هو وطني وما هو محرَّم. الأقوى هو من يفرض تعريف الوطنية، وحدود المسموح والمحرَّم، ومن هو “مقاوم” ومن هو “خائن”. من هنا، برز ما يمكن تسميته بـ“سياسة رمي الحُرم”: التخوين السياسي الممنهج لقوى أو أفكار معيّنة، لا لكونها خطرًا فعليًا، بل تمهيدًا لإقصائها من المشهد، ريثما يخلو الجوّ لمن يمارس هذا التحريم.
هذه الآلية ليست جديدة، حيث أنّ من يُحرِّم اليوم، هو نفسه من يتحالف غدًا، ومن يرفع راية “الثوابت” كان في لحظة سابقة أول من تخلّى عنها. هكذا تتحوّل المبادئ إلى أدوات، والمواقف إلى أوراق تفاوض، فيما يُترك الناس أسرى سردية واحدة لا يجوز مساءلتها.
لسنا جمهورًا… نحن في قلب الصراع
بهذا المعنى، لا يعود الناس شركاء في الصراع، بل يتحوّلون إلى جمهور: جمهور يُطلَب منه أن يصفّق، أو أن يختار هذا الفريق أو ذاك. لكن الحقيقة أنّنا لسنا جمهورًا لأي أحد. نحن في قلب الصراع، نتأثر به يوميًا، وندفع كلفته المباشرة، من أمننا وكرامتنا ومستقبل أولادنا.
لسنا جمهورًا للمقاومة لنُخيَّر إن كنّا معها أو ضدها. من الفطرة أن نكون مقاومة، لكن وفق رؤيتنا، لا وفق ما يُفرض علينا.
المقاومة ليست امتيازًا، ولا نزهة، ولا يمكن أن تُختزل بخيار حزبي أو سردية مغلقة.. هي فعل مبدئي اخلاقي، قد يكون مكلفًا، وقد يكون أقلّويًا، وقد لا يحقّق نتائج فورية، لكنه يبقى فعلًا أخلاقيًا وسياسيًا في آن، لا يقوم من دون وعي الناس ودورهم.
السياسة كـ"تمريك": تفريغ السياسة من معناها
في هذا السياق، حين يُقصى الناس عن موقع الفعل، تُفرَّغ السياسة من معناها ويتحوّل العمل السياسي إلى ما يشبه “التمريك”: شعارات جاهزة، ردود فعل متسرّعة، وغياب شبه كامل للتحليل المتماسك. لا سياق، ولا تراكم، ولا محاولة جديّة لفهم ما نواجهه. ومع غياب الصراع الحقيقي على الوعي، ننزلق تلقائيًا إلى سردية النظام، تلك السردية التي تقوم أساسًا على تغييب الوعي، لا على بنائه.
نادرًا ما يُطرَح السؤال الجوهري: كيف نواجه الاحتلال فعلًا؟ كيف نبني مجتمعًا وطنيًا مقاومًا، قادرًا على الصمود، ويحترم كرامات ناسه؟
وعند البحث عن مثال ملموس على نتائج هذا التفريغ، يمكن التوقّف عند جريمة الرابع من آب بوصفها أحد أكثر الأمثلة فداحة، لا لأنها حدث معزول، بل لأنها تكشف بوضوح طبيعة النظام الذي يُفترض به أن يقود أي مواجهة. جريمة موصوفة، بلا محاسبة، وبلا عدالة، وبلا حقيقة.
نظام يعطّل القضاء، ويحمي المسؤولين، ويُهين الضحايا وأهاليهم، لا يمكن التعامل معه كمرجعية موثوقة حين يتحدّث عن السيادة أو المواجهة. وهذا ليس حكمًا أخلاقيًا، بل استنتاج سياسي بديهي: من يعجز عن مواجهة جريمة داخلية، لن يواجه عدوًا خارجيًا.
التطبيع كنتيجة لا كمفاجأة
اليوم، يطفو مجددًا على السطح موضوع التطبيع. وكالعادة، يتحضّر أركان النظام، مجتمعين، لتحوير الفكرة، ورمي الأحكام السياسية، والاستثمار في التناقضات، لا من موقع المبدئية، بل من موقع إدارة الأزمة بما يحفظ توازناتهم ومكاسبهم.
لكن واقعنا الفعلي يفرض علينا خلاصة باتت واضحة: لا يجوز الثقة بأيّ من أركان هذا النظام، لا من هو في السلطة، ولا من يتصارع للعودة إليها. لقد اختبرناهم، وعاينا حجم ومستوى التنازلات التي يقدّمونها كلّما شعروا بأنّ مكاسبهم الداخلية مهدّدة.
مراجعة بسيطة للمسار تكفي. من إطلاق سراح أحد كبار العملاء، مرورًا بالتعامي المتعمّد عن الضغوط والإملاءات الخارجية تحت عناوين ملتبسة، وصولًا إلى التنازل التطبيعي الكبير في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. اتفاقية سعت بعض القوى إلى تسويقها كـ“انتصار”، وإيهام جمهورها بأنّها حقّقت إنجازًا سياديًا، فيما هي، في جوهرها، رضوخ فعلي لشروط الاحتلال ومن يقف خلفه.
من هنا، نعم، نحن نتخوّف اليوم من تقديم تنازلات أكبر، ومن السير قدمًا في مسار تطبيعي متدرّج. والتطبيع هنا لا يُختزل بتبادل سفارات أو صور علنية، بل أخطر من ذلك: كسر فكرة العداء الفعلي مع العدو، وتأمين الضمانات التي يطلبها، والتنازلات التي يفرضها، مقابل بقاء السلطة وتوازناتها.
وفي المقابل، ستواصل هذه السلطة اعتماد سياسة الإنكار، وبناء سردية تُبرّر كل تراجع بوصفه “حكمة”، وكل هزيمة بوصفها “إنجازًا”، وتُخوِّن من يرفض هذا المسار أو يعترض عليه.
البداية الآن، والهزيمة ليست قدرًا
كثيرًا ما يُقال إنّ إسرائيل تريد حربًا أهلية. الواقع أكثر تعقيدًا. صحيح أنّ إسرائيل ستستفيد حتمًا من أي اقتتال داخلي، لكن قوى النظام اللبناني هي الأكثر استفادة من إبقاء هذا الشبح حاضرًا. الحرب الأهلية، أو التلويح بها، كانت دائمًا لعبتهم المفضّلة لإعادة إنتاج السلطة، لا لحماية الوطن.
لكن ما يجري اليوم أخطر من ذلك. نحن أمام مسار واضح لإدارة العجز، وتحويله إلى وضع دائم، ثم مطالبة الناس بالتكيّف معه، أو تبريره، أو الصمت حياله. حين يُمنع النقاش، ويُجرَّم السؤال، ويُخوَّن الاعتراض، لا نكون أمام “وحدة وطنية”، بل أمام محاولة لإسكات المجتمع. وحين تُعاد تسمية كل تراجع بوصفه إنجازًا، لا نكون أمام سياسة، بل أمام عملية تضليل ممنهجة.
ما يقوم به الاحتلال اليوم لم يعد مجرّد عدوان، بل سياسة إعدام ميداني ممنهج، هدفها كسر الإرادة الجماعية وإرهاب المجتمع بأكمله. وفي مواجهة ذلك، لا يكفي الغضب، ولا البيانات، ولا تبادل المسؤوليات. فالاحتلال لا ينتصر فقط بقوته، بل حين يجد في الداخل نظامًا عاجزًا، أو متواطئًا، أو مستعدًا لتقديم التنازلات مقابل استمراره. نظام كهذا لا يهزم إسرائيل، ولا حتى يواجهها. أقصى ما يفعله هو نقل الهزيمة من الخارج إلى الداخل، ثم فرضها كقدر لا مفرّ منه.
الهزيمة ليست في توازن القوى فقط، بل في القبول بمنطقها. والخطر الحقيقي ليس في ما يفرضه العدو، بل في ما نوافق نحن على تمريره، خطوة خطوة، تحت عناوين الواقعية، أو الحكمة، أو تجنّب الفوضى.
من هنا، المعركة لم تعد مؤجَّلة، ولا ثانوية. هي معركة وعي قبل أي شيء آخر. معركة استعادة الحق في السؤال، في الاعتراض، وفي رفض تحويل البلد إلى ساحة تنازلات دائمة.
مرّ عام على وقف إطلاق النار. ماذا أنجزنا؟ شدّدنا العصبيات الطائفية، وتفرّقنا بما جمعتنا الحرب، فيما العدو وحّد جبهته، ووسّع علاقاته، وطوّر اقتصاده واستعداداته.
في معركة طويلة كهذه، أخطر ما يمكن فعله هو تأجيل البدء، أو القبول بالعجز كأمر طبيعي.
إما أن نكسر هذا المسار الآن، او سنُطلب لاحقاً وباللغة نفسها ان نصفّق لهزيمة أكبر... وأن نسميها، مرة اخرى، انتصاراً.
المواجهة تبدأ بالمصارحة وبالارتكاز على واقعية تسمّي الامور بأسمائها.
من دون ذلك، كل بداية ليست سوى وهمٍ جديد.