كيف تكون الثورة نظيفة؟

ربما من المبكر اليوم الحديث عن ثقافة "ثورة 17 أكتوبر"، لكن من الضروري إنصافها حيث ثابر الكثيرون على تحميلها الكثير من الإسقاطات الأيديولوجية والأخلاقية والدينية، متناولة أشكال ومظاهر تعبير هذا الجيل المنتفض بقوة، الجارف لكل الثوابت الإجتماعية والسياسية وفي مجال المعتقدات والأفكار.

يتساءل المفكر مهدي عامل بكلمات بسيطة معبّرة "كيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متُسّخة به، وتهدمه وتغتسل بوعد أنّ الإنسانَ جميلٌ حرّاً".

إن إنقباضات هذه الولادة تتجسد شيئاً فشيئاً يوماً بعد يوم، لها دلالاتها الرائعة بعيداً عمّا تتناقله شاشات التلفزة. محفورة على جدران الساحات المتلونة باستمرار بأجمل لوحات الغرافيتي، منسوجة بصرخات النسوة والشباب وأناشيدهم الذكية البسيطة الممزوجة بالسخرية اللاذعة، مُنمّقة بهمسات المفكرين والاقتصاديين والمحللين في حلقات النقاش الليلية على أعتاب الساحات والزواريب الجانبية. لهذه الثورة ضجيجها القوي، ضجيج موسيقاها المبعثرة المرتكزة على مخزونٍ قديم لم يفقد رونقه وصداه بعد، مخزون ثقافي، حفره فنانو جيل اليسار في الذاكرة الجماعية لآلاف الشباب الثائر والمناضل لسنوات وسنوات ، هذا الجيل ما زال يتنقل يومياً بين الساحات ينشد للجماهير المنتفضة.

لكن للشباب اليوم ضجيجهم الخاص، المرتكز على تجارب ما بعد الحرب الأهلية، من نضالاتهم بحملة إسقاط النظام (2011) والحراك الشعبي (2015)، فأغنية "الشعب يريد" تعكس رفض الطفَار للفقر والتبعية، تحفر هوية متمايزة بألحان هذا العصر من الراب والتكنو. تستمد من تجارب ثورات العالم العربي، أغاني الثورة المصرية وأغاني الالتراس، وتتماهى مع الجيل العربي الرافض لكل أشكال القمع والتبعية. كما تغتني من معارك النسوية وحق الجنسية والقانون الموحد للأحوال الشخصية ونضالات سلسلة الرتب والرواتب. إنه جيل منصّات التواصل الإجتماعي، المُنفتح على كل تجارب العالم، يتعلم، يكتشف، يطوّر – بسرعة – حركته، يقرع الطبول والطناجر ليلاً عند الساعة الثامنة، ليبعث القلق والخوف في نفوس كل من باع ضميره. إن الثورة هي تعبير عن الإبداع، والثقافة فعل إبداعي، أما التكرار واستدعاء الأفكار النمطية فيعني العيش في الماضي أي خارج الحياة.

أما بالنسبة إلى حلقات الشتم التي سادت الأيام الأولى، فقد كانت أشبه بصرخات ثائر لا يدرك إلا الرفض والقول كفى، لا، ولن أقبل. هي صرخات ثائر يحاول أن يحطم كل الأصنام المسيطرة، بإشهار ما يمارسه في السرّ بين جدران المنزل. إنها يوفوريا جماعية لشعب صمت طويلاً في وجه هذه السلطة. لكن سريعاً ما اندمجت الساحات، كل الساحات وفرزت أغانيها التي تحاكي جيلها الثائر، من خلال فناني الجيل الجديد، كل يوم أغنية، بوستر، فيلم ترويجي وتثقيفي، فكرة جديدة، نقاش،عزف كلاسيكي، محاولات تهدف لإسترجاع "التياترو الكبير" هذا الصرح المهمل والمغلق والمُباع. لكلٍ حركته الخاصة، ممثلين ومبدعين ومخرجين يتنقلون بين الحشود، يتحدّون الواقع، يطالبون بثقافة بديلة عن الثقافة السائدة، تكون مسؤولة ومنصفة. خرج الفنانون إلى الشارع أبدعوا، نقلوا حفلاتهم من المسارح المغلقة ، شاركوا - بجمالية مميزة - بإغلاق بعض الطرقات، نقلوا الفرح والحب إلى إنتفاضة قاسية وصعبة في وجه سلطة حاكمة مهيمنة لن تتنازل بسهولة عن الكمّ الهائل من المنافع التي تضمن إعادة انتخابها. تتشكل أطر نقابية جديدة ترفض التبعية لأحزاب السلطة الحاكمة. تجد طلاباً تمردوا رفضوا دخول صفوف الدرس، يطالبون بالمشاركة الجدية في الحياة السياسية وبقانون تخفيض سن الاقتراع. كما برزت قطاعات مهنية عدٌة الى جانب القطاع العام في ساحات النضال. والأهم من ذلك كله، بروز مفهوم استملاك المساحات العامة، الفعل الذي يدلّ عن وعي جماعي لمُلكية الوطن من "شعب" يريد إسترجاع مساحاته ووجوده وصوته وكلمته في هذا البلد.

لكل يوم بريقه ولمعانه، أفواج من الشباب، تهيم في حلم التغيير وبناء دولة مدنية وطنية، تهتف ضد السياسات الاقتصادية، ومن أجل إسترجاع الأموال المنهوبة، وتعلو أصواتها بغية المطالبة بحقوق كل المحرومين والفئات المُهمّشة. أما النساء، فقد قّدن المظاهرات وصرخن انشدن وقاتلن في سبيل بناء وطن.
"بفعل نضال الثوريين يتوحدون، على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، في حركة ثورية جديدة واحدة، تُعيد إلى العالم نضارته، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكرا على فكر، أو حزب، أو طبقة" (مهدي عامل)
تتعدد القوى السياسية والاجتماعية في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، للتنتج حركة ثورية تتناغم مع المرحلة التاريخية الراهنة وتنسجم مع مكوناتها.

آلاف الأسئلة تُطرح يومياً على هذه الحركة الثورية الجديدة التي تسعى جاهدة أن تكون واحدة. كيف يمكن بناء "شعب" بين ركام الحرب الأهلية والأحزاب الطائفية والإنقسام الطبقي؟
كيف يمكن إنتاج مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقية، التي يمكن أن تصبح مشتركة بالحدّ الأدنى بين الأفراد والجماعات، وتصوغ كثيراً من توجهاتهم ونظرتهم للعالم؟
كيف يمكن للتراكم في مجال الثقافة السياسية أن يساهم بالخروج من الدائرة المفرغة، وننتقل من مرحلة الوعي إلى مرحلة تحقيق مكاسب حقيقة؟

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 368
`


يانا السمراني