التغريبة الحضارية

 

... بعض الأشخاص تشاعريون جداً، إنّها لحظة الألم المولّدة للتعاطف، بحيث نتآلم بعضنا البعض. نولد صفحةً بيضاء، ما يُشكّل تصرفاتنا في ما بعد، هو حُسن التربية، لكبح الدوافع وضبط النفس من خلال عملية مراقبتنا الذاتية في المجتمع.


أنّهُ لمن المُحزن المُبكي، انقلاب الأديان بفعل القيّمين عليها والمؤتَمنين، على معنى رسالتها الأساس، تحوّلها لفِرَقٍ ومِللٍ حتّى المَلل، حتّى التفكّك الحضاري الأخلاقي، فباسم الدين يجري القتل والاحتلال والاغتصاب وتحجيب العقول، بالأحرى، قتل العقول؛ فإذا ما استدعينا مشهدية التاريخ البشري، لصَعقتْ عقولَنا ونفوسَنا لمشاهد الدمار والخراب وشواهد القبور المختلِفة، لرأينا كيف تحوّلت عُصارةُ الإيمان، والوجدان الإنساني، إلى نوازعَ صفراء، إلى تنازعٍ حضاريٍّ مشوّه، إلى نزاعاتٍ باسم الدين والديّان، إلى نزعاتٍ، جوهرها الهيمنة والاستعمار وسلب مقدّرات الشعوب.
لحظة تصوّف واستجداء...
يا سيّدَ الكون والوجود، أرواحُنا الطفولية تلوذ بك، إليك، لقد سقط المفهوم الإنساني في مستنقع القاذورات، وتمادّى الخدّاعون، يُمجّدون النفاقَ والدّمَ والشياطين. نحن الشّهداء، معشر البشر، نشهد علينا، أنّنا أحبَبْناكَ حتّى القتل.

ونحن في اللوحة، لوحة الحياة، نشهدها كيف ستقع علينا، نسقط عنها بعيداً وحيدين عاجزين، حيث فُضّتْ بِكاراتُ الحياة بقوّة السلاح، بغطرسة الصناعات العسكرية العالمية، بخواء الأفكار المُلقّمة بأمشاط الرصاص، تلك الأفكار الرصاصية القاتلة، لا حاجة للتمسرّح، للحوار. التغريبة، نحن لسنا سابقين عليها، نحن فيها منذ ما لا ندري. في ما بعد لحظة الإرتباك العالمية، إضطراب جمعي مَهين، تتهاوى فيها المراحل لصورة واحدة متنافرة ممزّقة، عن هذا النثار، الصهيوني الإرهابي الإمبريالي الرجعي القومي الماركسي السلفي الأصولي، وهي رواياتنا، نحاول اللحاق بها بلا جدوى وطائل، والإنكسارُ في الحكاية إلى تصاعدٍ مريبٍ وخطير، بما لا يُقنع الكاتب حتّى وإن ترامى بكليّاته على ملاءاتها، وهي اللحظة القاسيّة القاسمة، انوجدنا فيها في الخلاء، في توهة الحنين، ندور فيها باحثين عن صورنا الحياتية الضائعة بلا أصدقاءٍ وحياة.
في تشابك العلاقات، شِباكٌ تناسلت خيوطها، لا عودة فيها للوراء، كأنّما الأدوار تختارُ أصحابَها. ذلك الصباح، كان الأخير لنا، تباعدْنا في مكاننا على وقْع القذيفة الأولى، والحيوات تلبسّتْ مفاهيمَ مقيتةَ لحيواتٍ أخرى تتلاشى قبل أن تبدأ، إن حاولنا الرجوع إليها لا نقدر، ثمة عالمٌ برزخيٌّ ما بيننا، قراءةٌ لمرّةٍ واحدة، ولمرّةٍ طويلةٍ مريرةٍ نغرق في حبائل تفاصيلها المروّعة.
أذهبُ في قراءات الآخرين، أكتشف ما أكتب من خلالهم، أصوغ جملتي، تفرّدي بامتشاق أسلوبي، وهي عملية تشاركية العقول، فإذّانا في لغة التكوين نقرأ عنّا لبعضنا البعض في التغريبة الحضارية.
***
... نولدُ مصحوبين، أو مُصابين بدهشتنا، صدمة مجيئنا إلى دُنيانا. والصرخة الأولى في محرّكات الجسد، تعبيرٌ اعتراضيٌّ أوّل. بعد مشاورةٍ تلقائية، تكون الصرخةُ نفَساً عميقاً لحشيشة الوجود.
كان لبعض محارم القماش، خصائص الطيبِ وحرفا عشقٍ، أو قُبلة غزلٍ بأحمر الشفاه. لكنّنا ما بعد اليوم الأوّل الماثل لآخرين، لا نلتفت إليه، نذهب عنه لحياةٍ نصير فيها طاعنين في السن.
تمتلئ الخزانة بأشياءٍ لا نحتاجها، تضحي مشاعرَ صوفية، ومهما امتلأت، تقول، هل من مزيد، كأنّما نارٌ تُحَرِّقُنا، هكذا هي الذكريات لا تفقد قيمتَها، لا بل تزدادُ نُبلاً وألماً. بعد خطوةِ الفرح الأولى، نعتمد خطةَ المشي لمئة عامٍ، يا لهذا التفاؤل الصادم، نمضي مُترَعين بثقل أعباء الحياة... والتمنّي، متى نذهب عنها...؟ حقّاً، أنّها لمعضلة وجودية، وكلُّ الكلام، هو من باب المزايدة الذاتية.
لعبتنا الوجودية، مغامرةُ العقل ما بين الواقع والغيب، في طبعاتها المتلاحقة، صراعٌ حول الواقعي والافتراضي، فرضيات لا تُختصر برأيٍّ واحد، تُشابهُ لكمةً سدّدها العقل؛ فخرجنا عن أطوارنا بلا منازع، أخالها، أدوارنا الحقيقية مع عقاقير مهدِّئه. معظم الشعوب مجرّد كومبارس في التزواح والمأكل والمشرب، إذن، في حقبة العولمة والتكنولوجيا، على ملاءات تواجدُنا، أكثريةٌ مُرهَقة، واحد، إثنان في المئة يسيطرون، يحتكرون، يقتلون، ينهبون ويُشرّعون. جنسنا الملعون بثقافة الأقوى، إذن، هو الغزو والسلب، لم تختلف المجتمعات الحديثة عن سيرتها الغريزية القنص والإصطياد، سيرةٌ دمويةٌ حافلةٌ بالقتل، بتغريبتنا الوجوديّة.