جورج عبدالله… أَربَعونَ بابًا إلى الحُرِّيَّة.


في أَقصى الزَّمَنِ،
حَيثُ تُسجَنُ الفِكرَةُ في قَفَصٍ من صَفائِحِ النِّسيان،
ويَغفو العَدْلُ عَلى مِرْفَقِ المَصالح،
تَمشي الحُرِّيَّةُ حافِيَةً في مَمَرٍّ مِن ظِلِّ القُيود،
تَرتَجِفُ مِن صَقيعِ الصَّمتِ،
تَسألُ الحيطانَ عَن أَسمائِها الأولى،
وتَطرُقُ عَلى أَبوابِ المُعْتَقَلِين…
فلا يُفْتَحُ إلَّا جُرحٌ.

هُناكَ،
حَيثُ يُوقَفُ الوَقتُ عَلى ساقٍ واحِدَة،
ويَتدَلَّى القَمَرُ مِن نافِذَةٍ ضَيِّقَة،
يَجلِسُ رَجُلٌ لَمْ يُغادِرْ مَبدَأَهُ،
ولا رَكَعَ عَلى رُكْبَتَيْ التَّوسُّل،
كَأنَّهُ شاهِدُ قَبْرٍ يَضُجُّ بالحَياة
*****
في بَدءِ الحِكايَة،
كانَ فَتىً يَزرَعُ اسْمَهُ في تُرابٍ مَحجوزٍ لِلرِّياح،
يَحمِلُ الحُرِّيَّةَ كَزُوَّادةٍ عَلى كَتِفِ الحُلْم،
ويَمضي…

لَمْ يَكُن نَبيًّا،
لكنَّهُ آمَنَ أنَّ الوَطنَ لا يُولَدُ مِن مَهانَةِ الخُضوع،
ولا تَنهَضُ القَضيَّةُ على عُكَّازِ الحِياد.

كَتَبَ عَلى جَدرانِ النِّسيانِ:
“أَنا الحارِسُ الأَخيرُ لِرَمادِ المَبْدَأ،
فَلا تُطْفِئوا الجُذْوَةَ بالهَوان.”

فانقَضَّتْ عَليهِ الحُدودُ بأنيابِها،
واقتادَتهُ السَّلاسِلُ إلى لَيْلِ المَنافي.
*****
مَضَتِ السَّنواتُ كَسِلْسِلَةٍ عَمياء،
تَطْحَنُ الفَجرَ عَلى حافَةِ بابٍ مُوصَد،
ولا تُفْلِتُ إلَّا ظِلَّ إنسانٍ يُسافِرُ في وُجوهِ الجُدران.

كَيفَ يُقاسُ العُمْرُ في الزَّنازين؟
بِعَدِّ الخُطُواتِ بينَ الجِدارِ والجِدار؟
أم بعَدَدِ المَرَّاتِ التي يَرفُّ فيها الجُرحُ ولا يَصرُخ؟

في الزَّمَنِ الحَديديِّ،
تَبقى السَّاعةُ مُسَمَّرةً عَلى لَحظَةِ الاعتِقال،
وتُصبِحُ الأيَّامُ كَأسًا مِن مِلْحٍ لا تَنفَد،
ويُصبِحُ الحَنينُ نُقطَةً ساكِنَةً…
تَغْرَقُ في نَفْسِها.
*****
لَم يَكُنْ لهُ مَنْفًى واحِد،
بَل مَنافٍ ثَلاثٌ تَتَراكَبُ كَأقْفاصٍ فِي جَسَدٍ واحِد:
وَطَنٌ في القَلبِ لا يَعودُ إلَيه،
ومَنْفًى يُعلِّقُ صُورتَهُ عَلى جِدارٍ غَريب،
وزِنزانَةٌ… ضَيِّقَةٌ كَفُتاتِ ضَوء.

هُوَ لُبْنانِيٌّ تَكَحَّلَ بالقُدْس،
فَرَفَضَ أنْ يَغْمِضَ عَيْنَيْهِ عَلى طَعْنَة.
قالَ: “لَا عَيْنَ تَنامُ وَفِي القَضِيَّةِ وَجَع”.
فانطَبَقَتِ القارَّاتُ عَلَيْهِ كَصَفْحَةٍ مَطْويَّة.

وصارَ صَوْتُهُ خَيطًا مِن نُورٍ
يَسْري تَحْتَ الأَبْواب،
ولا يَغْفُلُ.
*****
قَد يَخرُجُ الجِسمُ مِن الزَّنزانَةِ،
لكِنْ، كَيْفَ يُفرَجُ عن قَضِيَّةٍ رُفِعَتْ ضِدَّ النِّسيان؟
الحُرِّيَّةُ في قَضِيَّتِهِ… لَيْسَتْ بابًا،
بَلْ مِرآةٌ يَخافُها المُذْنِبون.

أُكْمِلَتِ المُدَّة،
ثُمَّ أُكْمِلَ ما بَعْدَ المُدَّة،
ثُمَّ تَوالى التَّاريخُ يَمضُغُ المَوْعِدَ ولا يَبلَعُه.

ما الذي يُؤَبِّدُ الحُكمَ،
إنْ كانَ القَيْدُ لَيس قانُونًا،
بَل ميزانًا تَحكُمُهُ الرِّيبَة؟

هُوَ ليسَ سَجينًا فَقَط…
هُو سُؤالٌ يُخيفُ الجَواب.
*****
مِن خَلفِ جِدارٍ لا يُنصِتُ،
كانَ صَوْتُهُ يَرتُقُ ثَوبَ الضَّميرِ المُمَزَّق،
ويَنفُخُ في نايِ الفِكرِ لَحنًا لا يُجيدُهُ النِّفاق.

لَم يَكُن يَصرُخُ،
بَل كانَ يَزْرَعُ في الهواءِ نِداءً نَديًّا،
يَعبُرُ القارَّاتِ كَنَسْمَةٍ،
ويَسْقُطُ في أُذُنِ الحَقِّ كَدَمْعَةٍ تَعرفُ الطَّريق.

قالَ:
“لَسْتُ أَطْلُبُ خُروجًا،
بَل أُطالِبُ العالَمَ أنْ يَدخُلَ في نَظَرَةٍ نَظِيفَة.
فإنْ أَطْلَقْتُموني…
فاطلِقوا مَعِي ما حَبَسْتُموهُ في أنفُسِكُم.”
*****
الحُرِّيَّةُ لا تُوزَّعُ كَالمِنَح،
ولا تُوَضَّبُ في مَلَفٍّ بِصُورةٍ ومُصادَقَة.
إنَّها نُورٌ…
إمَّا أنْ يُضيءَ لِلجَميع،
أو يَبقى مَسْجونًا في كُلِّ واحِدٍ منَّا.

جورج عبد الله،
لَم يَكُنْ حَكايَةَ ماضٍ،
بَلْ سُؤالًا مُقِيمًا في حَلْقِ العَصْر…
هَلْ نحنُ أحرارٌ بِما يَكفي،
لِنُفرِجَ عَن أَحرارٍ أَمثالِه؟
*****
خضر ضيا
————————-