أول لوحة كتبها الشعب ...*

تمهيد: في أرشيف المفكر الشهيد حسين مروة مجموعة من المقالات حول ثورة 1958 الوطنية ، تحدّث فيها عن وقائعَ وأحداث يشهدُ امثالها وطننا لبنان منذ قيام الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الثاني 2019 وما رافقها من أيام ثقيلة وعصيبة. ثورة 1958  كان على رأس السلطة فيها رئيس الجمهورية كميل نمر شمعون  ورئيس الوزراء سامي الصلح ووزير الخارجية شارل مالك. وكانت الشرارة الأولى لانطلاقتها اغتيال الصحافي الوطني نسيب المتني ... نستعرض هنا مقال واحد من ثلاث مقالات متتالية ومرتبطة ببعضها وكأنها تُكتبُ اليوم  وفي ظروف نعيشها مشابهة لتلك، رغم مرور 63 عاماً على انطلاقة ثورة الـ 1958 الوطنية ( هـ . م . ). 

ملاحظة: في العدد القادم، ستنشر النداء المقالين المتبقيين ضمن هذه السلسلة. 

الموت للخونة .. عاش لبنان ..

هذه الكلمات ليست لي، وإن كانت تعبّر عنّي بصدق، أعمقَ ما يكون الصدق ..

هذه الكلمات ليست لكاتبٍ آخر من ذوي الأقلام الحرّة المشرعة الآن في ساحة المعركة، وإن كانت تترجَم عن كلِّ كاتبٍ منّا بأدق وأفصح ما تكون الترجمة .. 

هذه الكلمات ليست لقائدٍ سياسي، ولا لقائدٍ عسكري من قادةِ ثورتنا الرائعة، وإن كانت هي لسانُ كلِّ قائد، وكلِّ ثائر، وكلِّ مناضل، في ميادين الثورةِ جميعاً .. 

هذه الكلمات كتبها الشعبُ نفسُه، كتبها بيده هو، وضعها حيثُ اختار هو بنفسه أين يجب أن توضع، وأين يجبُ أن تراها الأعيُن، وأين يجبُ أن تُعلِنَ حكمَ الشعب لمن يُريدُ أن يعرفَ كيف يُعلنُ الشعبُ حكمَه على الخائنين.

من رأى منكم خرائبَ البيت الذي أحرقه الشعبُ بيده، منذ أيام على هزج الرصاص، وزغاريد النسوة، وتهاليل الثائرين، فقد رأى هذه الكلماتِ ذاتَها تتشبّث في الخرائبِ من أعاليها، وتطلعُ حروفاً ضخمة رسمتْها يدُ الشعبِ على لوحةٍ ضخمة، حتى لا تَفلتَ عيْنٌ تعبُرُ من هناك إلا وتتسلّقُ ذلك الجدارَ المتهاوي، لتقرأ: 

الموتُ للخوَنة .. عاش لبنان .. 

الشعبُ الثائرُ أصدقُ مَن يعرفُ لمن كانت الثورة، لأنها ثورتُه هو، نَبَعَتْ من وجدانه، من علاقته بالأرضِ التي اسمها الوطن، وإسمها هنا: لبنان .. 

الشعبُ أعمقُ مَن يُفلسِفُ الثورة، لأنها فلذةٌ من وجوده .. لأنها جذوةٌ من ناره .. لأنها ثورتُه هو .. لأنها المدُّ المتصاعدُ من نهرِ حياته .. فهو ـ إذن ـ أبصرُ عيناً بما في الأعماق من مجرى الثورة ، وأرهفُ حدساً بما وراء الزبَد خلال المدِّ المتصاعد، وفي ثنايا الموجِ العارم .. 

الشعبُ أدرى بأنّ الثورةَ اليومَ في لبنان، ما كانت إلاّ لكي يموتَ الخونة، ولكي يعيشّ لبنان .. 

والشعبُ هو أدرى بمَن هم الخَوَنة ، وأدرى بمَن هو لبنان .. لبنان الذي يجب أن يعيش ، والذي يجب أن يموتَ الخوَنةُ لكي يعيش .. 

ليس عبَثاً أحرق الشعبُ بيتَ الرجل الذي كان اسمُهُ " سامي الصلح " ..

وليس عبثاً كتبَ الشعبُ تلك الكلمات القليلة ـ الكثيرة بِيَدِه ، ثم جعلها لوحةً صارخة على خرائبِ ذاك البيت ، معلناً أنّ:

الموت للخونة .. عاش لبنان .. فَعلَ الشعبُ هذا ، ليقولَ إنه يعرفُ الخوَنةَ بأعيانهم ، ويعرفُ أنّ الخيانةَ هي أولى المباءاتِ والقُمامات التي يجب أن تحرقَها نارُ الثورة، وأن الخوَنةَ هم وحدُهم مَن يجب أن يجرفَهم السيْل، سيْلُ الثورة، بعيداً عن أقداس الحياة .. 

هذه أولُ لوحة كتبها الشعبُ بِيَدِهِ ووضعها حيثُ يجب أن توضعَ بِيده، وما أكثر ما سيكتبُ الشعبُ هذه اللوحةَ ذاتَها، ثم ما أكثرَالجدران السود التي سيضعُ الشعبُ هذه اللوحة في أعاليها منذراً، ومعلِماً بأنّ الثورةَ النابعةَ من وجدانه هو، لا تكون، ولا يمكنُ أن تكون، إلاّ ليموتَ الخوَنة ، ولِيعيشَ الوطن .. ليعيشَ هنا لبنان: لبنان الشعب وحدِه ، لا لبنان الحكام الطغاة، لبناننا نحن، العربي المستقل المتحرِّر المتطوِّر، لا لبنانهم المصفَّد بالقيود، الخانع الأذلّ، الراكع على أقدام المستعمرين .. 

الموتُ للخوَنة .. عاش لبنان ... 

*كتب هذا المقال بتاريخ ٢٤ حزيران ( يونيو) 1958.