عيد العمال

... أما "الإنسان" الذي ينزل على الرحبِ والسِّعة في زاويتنا اليوم ، رغم ضيق المكان ، فهو مِثلُ صاحبنا العزيز يوري غاغارين ، ينزلُ ملءَ قلوبنا نحن الذين نتلاقى هنا في هذه الصحيفة ، وملءَ قلوبِ الناس الآخرين من أهلِ هذا الكوكبِ جميعاً..

 

وهو إنسانٌ من نوعٍ خاص أيضاً مثل يوري غاغارين .. فإنّ بينهما قرابةً تنحدرُ من أصلابِ التاريخ وتتسلسلُ مع الدم في سواعدِ الكادحين منذ داعبَ أولُّ معوَلٍ خدَّ الأرضِ العذراء حتى داعبَ أولُّ إنسانٍ جبهةَ الفضاء الكوْني .. 

وهو مثلُ يوري غاغارين ، لا ينحصرُ معناه في "شخص" ، ولا في جماعةٍ معدودة .. هو ليس واحداً بعينه من الناس ، ولكنْ هو كلُّ واحدٍ من مئاتِ ملايين الناس ..

       ... حتى اسمه يختلف عن أسمائنا جميعاً .. اسمه بالذات يحتوي مئاتِ ملايين الأسماءِ البشريةِ التي يعيش أصحابُها معنا على بساط الأرض ، ويحتوي مئات الأسماءِ البشريةِ التي يَنْدمجُ أصحابُها مع ترابِ الأجيالِ المكنوزةِ في باطنِ الأرض .. 

        نحن اليوم في عيدٍ من أعياده .. نحن سكان هذا الكوكب كلُّنا نشعرُ اليوم أنّ عيدَه عيدُنا ، فَرَحَه فَرَحُنا ، انتصارَه انتصارُنا .. وفي مدى التاريخِ كلِّه لم ينهزِمْ في معركةٍ بينه وبين أعدائه إلا إذا كان انهزاماً لإنسانيتنا .. 

       يومَ وُلد على هذه الأرض وُلِدَ التاريخ البشري .. ومذْ صار يدرجُ على بساط هذه الأرض ، بدأ التاريخ يمشي على قدميْه .. 

       يومَ حملَ مِعولَه الأول ، ومطرقتَه الأولى ، وشرع يفكُّ بهما رصدَ الكنوز، كنوز التراب والحجر ، بدأ التاريخ يحملُ زادَه ويُسافرُ مبشِّراً بقيمة الحياة وقدرة الإنسان ، وفي رأسه ألفُ حلم ، وألفُ خاطرة  وألفُ فكرة ، ثم يصعدُ من قِمةٍ إلى قِمة ، وكلما بلغ محطةً في المسير ، كانت أحلامُه تكبر ، وخاطراتُه تُنبِتُ غِلالاً في الأرض ، وأفكارُه تشهقُ عمائرَ وبشائرَ ملءَ السهل والجبل .. 

      من هو هذا "الإنسان"  ؟ .. 

      لماذا تستعجلُ السؤال   ؟ ..

      دعني أُكملُ لك حكايتَه ، ثم اسألْ نفسَكَ : من هو ؟.. 

      ستعرفُه أنت من غير أن أسميَه .. ولعلّك عرفتَه منذ الآن .. 

      اسمُه أربعةُ أحرف بِلُغَتِنا .. ولكنها أُعجوبة ، فليس مثلها أحرفٌ في كلِّ لغةٍ تَسَعُ دنيانا كلَّها ، وتَسَعُ تاريخَ إنسانيتِنا كلَّه ، وتَسَعُ كنوزَ أرضِنا بأجمعِها .. 

      أعجوبة ؟ .. 

      لا ، فالحقيقةُ ليستْ أعجوبة ، وإنما هي بسيطةٌ كل البساطة .. 

     وهو نفسُه ، هذا "الإنسان" ، بسيطُ كلّ البساطة .. هو الذي يعلِّمنا البساطة ، لأنه هو أروعُ حقيقة . 

     "عامل" ...  هل أبسط من هذه الأحرف ؟ .. وهل حقيقةٌ أروع مما في هذه الأحرف من حقيقة ؟ .. 

     "عامل"... أيُّ خيراتِ الأرض وُجِدتْ حتى الآن ، وأيُّ خيراتِ الأرض توجَدُ بعد الآن ، لم تنبعْ، ولن تنبعَ إلاّ من الساعدِ الذي يحملُ هذه الأحرفَ ويشحنُها بالطاقات ؟ 

      أيُّ حُلُمٍ أضاءَ في خاطر الأرض ، وأيةُ فكرةٍ حبلَ فيه رحمُ الأرض ، لم ينبثقا من ساعديْه خصباً وغلالاً وثماراً وخبزاً وخمراً وقلاعاً وعماراتٍ وأساطيلَ وكهاربَ وخزائنَ وشرائعَ ومسرّات ؟ .. 

***    

      أتقولُ إنَّ " أولَ أيار"  عيدُه  ؟ ..

      كيف تقولُ هذا ، وهو عيدُنا جميعاً ، عيدُ الإنسانِ كلِّه ، عيدُ الحياةِ والفصول والطبيعة ، عيدُ الأرضِ هو ، وغداً عيدُ الأرضِ والسماء معاً ... 

      يا أخي "العامل"  ! ..  

      منك هذه الكلمات ، ضوْؤُها وعطرُها وفَرَحُها .. منك هي ، ومنكَ هذا القلم الذي يضفرُها لجبينِك في يومِ عيدِك ، أعني عيدَنا نحن أبناء القلم وأبناء الحياة ..

     هذه الكلمات قبلةُ لعينيْك ، لساعديْكَ الجبّاريْن الخلاّقيْن ...  

   

 

        *   نشرت هذه المقالة للمفكرالشهيد حسين مروة في مجلة  "الثقافة الوطنية " (مجلة شهرية ثقافية)                           زاوية  " صُوَر إنسانية "،  بتاريخ 1 أيار 1961.