"الذاكرة... "حزب الشعب.. الذي قارب المائة.. لا يُهرَم.. يتجدّدُ أبدا

هنا، في حاضرة الذاكرة.. أصوات ٌ، صورٌ، وجوهٌ لحيوات مختلفة، منها الحقيقيُّ، منها المُخترَع، منها اللامكتشَف، منها.. حيث زحمة الأوداء، يلوح في عصبونات الدّماغ مجرّات، تحكي بخطوطها، بألوانها، بجمالية الخَلق والإبداع، تحكي لنا عنّا، نحن.. كائنات غبار النجوم، عن تلك اللحظة الشذوذ الرائعة الكافرة بأسباب الإنفجار العظيم..

الذاكرةُ الخيال، نغمات الأكوان، النافرة المستوفَزة المتوقّدة لمعادلات التيه، تدور تبحث تكتشف فيزياء الموجودات، فلا تعرى من نزعةٍ تحمل في جوهرها التوق المعرفيّ، كما النزق الحميم الشهوات، في معارج السّماء، سجايا العرجون الَّلبون .. يقتات من نشوة الدّماء ، كونها الذاكرة الحامل للأبد بروقَ الفناء والخلود..
...
فيها ، في الذاكرات.. تشتعل الغيوم، تتفشّى الشائعات، كأنّما ذات أطرافٍ مُصَخَّرة، مُصَحَّرةِ البوح الحليبيِّ السَياط، بها تُرفَعُ الأنخاب، كذا.. تُحتَطب تحت وهج الكواكب النافثة الأنوار، وتلك الحابرة في دقيق كوّرات الرِعشات، تتجاذبها لعنات الريح، فإذا الدّجى يروم باسقات المصابيح، تلاعبها الذكريات، إغواءُ بقايا نيازك، قرقعة الزلازل والبراكين، وكان دأب الفارّين في أبعادها، أن يجمعوا شروطها ليومٍ آخر..
...
وذابتِ الأفكارُ، تضمحل العوالم في حمأة الشتات، فوق صهو النجيع ثورات الأصيل ، لعلّ الساقطين عنها.. عن ذاكرةٍ مُصابةِ الجراح، فمن ذا يستنسخ ذاكرةَ التكوين، من ذا يزرع في المشاعل الفرحَ والبكاء، من ذا.. وقد أباحت فروجها، فإذا العُبّاد كزفيف المسام، ينضحون بهتاف وتصفيق القرون، فإذْ تكاثر السَحَرة، وغدت معارك السّحاب.. تعانق زعانف اللهيب، كان، وما زال في هزيع الحضارات قارعو الزّمن..
...
كان ، أن نفرتُ عن ذاكرة الكهولة .. إلى وقدة الطفولة ، كي يكفيني غربة الذاكرة . كان ، أن خبّاتُ ذاكرةً حيّةً في الذاكرة ، في تنامُلِ نسغها .. تكاملٌ فريدُ المعاني ، أشواقي المٌخطّطة بالعناصر ، من طينها جسد التناسل ، من مائها تزواج الأضداد ، من هوائها .. أهواءٌ ، أنواءُ الجينات والخلايا ، من نارها صراخٌ ، صلبٌ ، اكتشافها بقوة العزيمة ، الصلابة والإرداة . ثمّ أبحتُ خباياها ، ما عدا إسمٍ يكافح في المرآة لإنسان ..
...
ماذا لجلال الموت ، دمٌ مخاطُ الأفواه ، نولد جائعين ، كذا ، نحياها الحياة ، دمٌ في كلّ نقطةِ وفاصلة . ماذا أنتَ من الخَلقِ .. في الكرويات الحمراء والبيضاء ، ماذا لو ذات غالبيةٍ سوداء ، فكان في السواد عبيدٌ وأسياد ، رقيقُ ذاكراتٍ معطوفة الانتساب لانبعاث شمس المغيب ، وهذا الضوء عن عُصارة العنبر ، يحلم كيف تكوّنَ في الأصلاب والأرحام ، يسائل الطواغيت عن اليتامى ، عن الفتاوى ، عن الفساد .. يُسمَعُ كيف الأكُفُّ تنفض ما اقترف وبرَ الصُبّار ..
...
هذا الدّماغ كحبّة الجوز ، لن يستطيع الحياة إن كان جائعاً عارياً خاوياً ناضباً بلا معرفة ، لا تحتمله حتّى توافه الأمور ، والمسألة ليست انتزاعاً ، بل فرادة القدرة التنافسية الإيجابية ، فكان .. لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل . تحمل الساقية جديدها من الأحمال .. من الشّمس حتّى القشّة والحصاة . فيها حبّة الجوز ، تنقسم فيها الذاكرة .. حين الفقر في الوطن غربة .. والغنى في الغربة وطن . حين الحياة بلا ذاكرة .. هي حياة ميّتة ..
...
هي خزين ذاتها ، هي من زُمُرُّدٍ وعسجدٍ وياقوت ، وهي العلّو والسقوط ، الرفعة والكلمة ، وهي احتمال الكمال والجنون ، فمن سبق نال قصب السبق ، وارتدى ثوب نملةٍ .. تتمارد لغايتها ، يتمسّك بغايته لتوازنٍ ما بين الواقع والأسطورة . صاحبها .. يقف قُبالةَ مرآته ، ينحتُ رفضاً وإصراراً ، أو يقبس خياماً ، يستنسخ بندقيةً لإجاباتِ قديمة .. لعلّ يطرح لها أسئلة جديدة ، هي هكذا ، تفرص مفرداتها .. نبيهة مراوغة ذكية .. أو قاصرة ، تكون زلزالاً بعده ، تسونامي جارفَِ لأفكارِ غير قابلة للحفظ . يحدث بعد قراءةِ وأخرى ، تضاربٌ واشتباك ، كما تلاقٍ ذاتيِّ ، يحدث من خلاله نتاج لمحصّلةِ واسعةِ التثاقف ، تضفي على خزين الذاكرة أهميةً ذات جماليةِ عالية ، وبعفويةٍ نقيّةِ الأهواء ، تذهب بكاتبها إلى مصاف الينابيع الفكرية الكبرى ، وهي رحلة العقل والنفس والروح والوعي والوجدان بأسمى ما يكون ..
...
هي ذاكرة الوجود .. قبل وبعد ، حاملة أضوءِ الفِكَر ، في تحوّلاتها تمرّدْ وحيرة ، في انقلاباتها تصوّرٌ واحتراف ، اختراقٌ واغتراف ، عقلانية وصخب ، بوصلة المعنى والحقّ والقيّم .. بأن تكون على درجة عالية من معاني الإنسانية ، التي ضدّ التوّحس على الصعد كافّة .
لها أن تتمسرح ، ترسم وتنحت ، تزهى بفيوضات المدارك لديها ، تنسج أفكارها ، أهواءَها ، مشاعرها ، بأسلوبِ أدبيٍّ يفوق الفكرة الأولى لمفازةِ تحوز على بديعٍ بشابه الجسدَ والروح ..
...
فيها سيل الحنين ، دفق الحكايات ، أحاسيس لا تنضب ، لذاتها حشود النهارات ، صفاتٌ هي زاد التذكُّر ، وهي الحارسةُ الراويةُ الساردةُ لمعات البروق ، رعدُها قيامةٌ لكتاب ، جوعها للجمال ، جهاتها واحدة .. جهة القلب ، والعقل تصميمٌ للكفاح .
وبي غُمرُ الأفكار ، غمرات حُبيتها ، والنهر دمعةٌ أنقطها كحبّات البرتقال ، أُتقِنُ بوحها ، جرحي جرحها ، دمعها على خدود الوقت ، وجناتٌ تدور بي كمرجان القمر ، ولي دمٌ من دمٍ طويل الأنفاس ، فأستبيح بعضي لأحلامٍ وذكريات ، وأسحب من أطراف الغياب .. مشاهد الذاهبين ، المقيمين في مكين الذاكرة ، فهي منذ الولادة اتّساقٌ نهِمُ الفطرة ، نزّاعةٌ لذاتها لأناها .. ثم تصير باغتناء الجماعة ، تستنبط معادلات الأكوان لوقتٍ آخر ، ولأنّها من ذات النجوم لا تموت ، فأحياها غير آهبٍ بالأخطار ، ولي عين الصيّاد ، ألحق بالأفكار فلا أهرم أجزم.

  • العدد رقم: 409
`


أحمد وهبي