وتسألون عن صفقة القرن؟

وتسألون عن صفقة القرن؟ هو ليس سؤالاً، بل هو استفهام. فأيّهما أسبق، القضية أم الموضوع أم القوى التي تتفاعل معه؟ مناسبة هذا السؤال سببها الأوضاع المتراكمة في منطقتنا العربية بشكل خاص، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، لأنّ ما يجري فيهما لعبة، ولكن بملاعب عديدة ولاعبين كثر. وعلى تلك الأرضية تدور رحى المشاريع المتتالية، المتباينة أو المتفق عليها، منذ قرن من الزمن، لتستمر، وبشكل ممنهج ومدروس ومخطّط له.

هي تلك اللعبة القذرة التي أدخلها "بلطجية" العالم المتحضّر، القابعون حيث موائد اللئام منتشرة. هم من استلب أحلام بشر وشعوب وأموالهم، وبنوا لهم مقابلها قصوراً من رمال، بنسمة هواء تتطاير ذراتها هباءً منثورا. هم من أنتج الاستعمار كبديل للاحتلال أو مكمل له، والتجزئة كبديل عن الوحدة العربية المنشودة. هم من دفع باللعب، وعلى المكشوف إلى الخشونة والضرب من تحت الحزام، حين سلبوا الأرض عنوة من أصحابها وأعطوها لمن لا يستحقها، ومن دون أي رادع أو وازع.

هو مشروع خبيث وبرؤوس متعددة، أطل من زوايا الملعب الأربع. قوى وجبروت واستعمار واحتلال وتبعية وجهل وأميّة وفقر وعوز... صاغته ممارسات رأسمالية متوحشة فالتة ومتفلتة، حملته حاملات الطائرات والموت القادم من الغرب، صنعته أياد تعيش في خراب الغربان المتشحة بلون أسود قاتم. أقامت بين ظهرانينا ردحاً من زمن غابر، وتستمر. زرعت في ملاعبنا مقدّمي خدمات، يعرفون،ومن نظرة واحدة، ماذا يريد سيدهم، فيهرعون إليه مسبحين بحمده شاكرين. هي أنظمة بُنيت على باطل، واستعمار تمادى في غيّه حدّ الإسفاف، وفي بطشه حدّ الجرائم الموصوفة، وفي قهره حدّ إعدام الحياة الكريمة.

لا تسألوا أيهما أكبر اللعبة أم اللاعبون؟ أظن بأن ليس هناك ثمة جواب واضح يمكننا الركون إليه، ليس لصعوبته، بل لضرورة المعرفة المسبقة، من نقصد بهذا السؤال؟ هي مواجهة متصلة في منطقة الشرق الأوسط، ميادينها كل الدول ووقودها الشعوب. اللاعبون كثر، فيما اللعبة كبيرة. مشروع بدأ منذ مئة عام، حملت راياته إمبريالية معولمة وبمنازل كثيرة. أصحاب نفوذ ورأسمال. شعوب غُلب على أمرها عقود طويلة، تكمّشت بقشة خوفاً من الغرق. استجابت لمطالب، ظاهرها عكس ما تبطنه. قبلت وثارت وخلعت سلاطيناً وتاريخاً وعقوداً من التبعية والقهر والقتل والاستلاب. هي هدية الحرب الكبرى ومجاعتها وجرادها، هي بداية التحضّر القادم على ظهر ترسانة من سلاح، كان قد جُرّب في ساحات بعيدة وفعل فعله. معهم بدأت اللعبة، ومن على ذلك الملعب العربي الواسع والشاسع، ولمّا تنتهِ بعد، وعلى ما يبدو بأنّ آجالها طويلة.

هي لعبة سيطرة كاملة، أبطالها هؤلاء، سليلو ذلك التاريخ المتواصل؛ مشروع غربي برؤوس وأهداف تتعدى المعلن منها. وكيانات محلية على مقاس الاستخدام المشتبه فيه لسد حاجاته وجشعه وطمعه. وفرز ما دون الوطني لأبناء المنطقة، كي تستعيد القبائل والعشائر مجدها الغابر وتسترجع خصالها ومقومات وجودها؛ القتل والغزو واستثارة الغرائز... وطبيعة علاقات تسودها المصالح وتغذّيها الأحقاد، فتنمو الزبائنية في أبشع صورها وتتجسد التبعية بأسوأ أشكالها، فيغدو المواطن مسلوبَ الانتماء هجيناً، واقعاً بين هوية مفقودة وأخرى غير متبلورة.

هو ابتلاء لا براء منه، متأصل في تلك البلاد المترامية من بلاد العرب والجيران، قوس يمتد من مغرب يلامس الأطلسي إلى مشرق يحاذي السور العظيم، غطّ في نومة أهل الكهف ولمّا يستفق بعد. الأمل مفقود والعهد معقود على مجهول طال انتظاره، وفي مرحلة الانتظار تلك لا بأس من تمرين على المواجهة؛إرهاصات عبّرت عن نفسها بمناسبات عديدة. نزلت إلى الشوارع وصرخت بالرفض. جموع تكدست أحلامها، فخرجت لتطالب بفسحة من حرية ضائعة بين زواريب الطوائف وحدود المذاهب، المحاذية لحدود المعلن من مشاريع مشتبه فيها تعشش في جوانب الملعب. صرخات لا تزال تعلو، وإن بخفر إلّا أنها تشق صمت الاستسلام المتأصل، معها ستصبح اللعبة أجمل، فليكن إذن اللاعب المحلي هو أساس الفريق؛ فالمرمى واضح، والهدف مطلوب والحكم كاذب، لكن تبقى خبطة الأرجل وقوتها مع النظرة الثاقبة هما الأساس، فلنسدد داخل المرمى إذن ولنسجل، ولو لمرة واحدة. الفرصة متاحة فلا تضيعوها.

وتسألون لماذا صفقة القرن اليوم؟أيضاً هو سؤال استفهامي، فتلك الصفقة ما هي إلّاالمحصلة الطبيعية لذلك المشروع، بشقّيه الخارجي والداخلي. هي ذلك المولود الناتج من تطابق مصالح بين إمبريالية متوحشة ونظم هجينة– هي الأصل وهم الأدوات – فأتى مشوهاً غير قابل للحياة، ومع ذلك، جاء من يريد فرضه، وبالقوة القاهرة. اللعبة هنا بدت واضحة، لا لبس فيها وأيضاً اللاعبون؛ هم أميركا والكيان الإسرائيلي والرجعيات العربية بكل ألوانها، هم أموال النفط وريوعه والتقسيم... أمّا نحن، فنحن المقاومة الوطنية الفلسطينية والعربية الشاملة، التي قالت لا، منذ ما يقارب القرن من الزمن ولمّا تزل؛ منها كان الرد وعليها اليوم استكماله؛ الردّ الذي سيؤكد بأنه، مهما كانت اللعبة كبيرة وأيضاً اللاعبين، فإن إرادة المقاومة هي الأجدى والأبقى والأنفع.

فالمواجهة الشاملة لا تعني هنا المعركة المتماثلة، وإنما تعني في جوهرها، العمل في كل الساحات وحول كل القضايا، وإن اختلفت الوسائل. فلتكن القضية الأساس – فلسطين ولتعد، سبباً لإعادة بوصلة الصراع إلى مكانه وطبيعته الأصلية: قضية فلسطين، ليست قضية أرض انتُزعت من أصحابها أو شعب شُرّد في بقاع الأرض فقط، هي قبل كل هذا وذاك، قضية مشروع استعماري بدأ منذ قرن كما أسلفنا، هدفه السيطرة والهيمنة على المنطقة وقهر شعوبها، وما الكيان المصطنع الناتج عنه وبوظيفته، إلّا شكل متقدم من الفاشية العنصرية وموقع متقدم للعدوان. على هذا الأساس تصبح مقاومتُه مقاوَمَة نمط الهيمنة بذاته، والذي ما انفكت الولايات المتحدة الأميركية تمارسه، وبأبشع صوره ووسائله. وهذا الذي نؤكد عليه، يدفع باتجاه أن تتعدى موجبات مواجهته وتتنوع لتشمل كل من يؤمن بالتحرر والعدالة والحرية والتقدم في المنطقة والعالم،ومن خلال العمل على إطلاق جبهة مقاومة عربية شاملة وبنائها،وعلى كل الصعد وبمختلف أشكال النضال، في مواجهة أهدافه الاستيطانية والجيو-سياسية والاقتصادية والاجتماعية، ودعماً لقضايا التحرر الوطني في بلداننا العربية، ولقضية فلسطين وشعبها كي لا يُترك وحيداً في هذه المعركة. وأيضاً مع لبنان في ظل التهديدات الإسرائيلية المتكررة والخروق المتواصلة لسيادته، والمعرّض دوماً لاعتداءات صهيونية.

من هنا تصبح مسألة تلازم ذلك العمل مع تطوير أساليب النضال وتنويعها، ضرورة ملحة وتحديداً في بلدان المواجهة المعرّضة للعدوان المباشر، بغية تأمين أفضل شروط التصدي الناجح لمفاعيل تلك الصفقة، التي من المحتمل أن يطغى عليها، في الأمد القصير والمتوسط، الطابع العسكري. وهنا يأتي دورنا كقوى مقاومة بإمكانياتها، وبالتنسيق في ما بينها، لتأمين أفضل شروط المواجهة، بالإضافة إلى العمل على تصعيد التحركات الأهلية والشعبية بهدف حشد وتعبئة طاقات شعوبنا – وبخاصة شبابنا - واقتصاداتنا ومؤسساتنا ومنابرنا الثقافية والإعلامية في مواجهة التطبيع بكل أشكاله.

وهذا الأساس يجب أن يشكل منطلقاً حاسماً لاستكمال بناء "المشروع السياسي" القائم على المواجهة الشاملة، في الخارج كما في الداخل: أي مواجهة المشروع الإمبريالي الأم عبر تعرية أدواته المحلية وتفكيكها. ولتأمين أفضل شروط النجاح في هذه المواجهة. وبالنظر إلى أنّ أولوية هذه المواجهة تتجاوز، ولأسباب موضوعية وتكتيكية، غيرها من الأولويات، ما يستوجب منّا المبادرة بالتوجّه نحو كل تلك القوى والأحزاب اليسارية والقومية في منطقتنا، المؤمنة بهذه الخيارات، والتي يمكن أن نشكّل معها مجموعة ضغط نتفق وإياها على المبادئ والعناوين، لحثّها على توحيد جهودها وطاقاتها لمواجهة المشروع الأساس وإسقاطه. هي مواجهة مستحقة ومطلوبة، اليوم وليس بعد حين. فلتعود الشوارع العربية إلى موقعها الطبيعي كمكان لتصويب وجهة تلك المواجهة، فهي صاحبة الحق الشرعي.


* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني