الإتفاق الإماراتي - الإسرائيلي.. أكبر من عملية تطبيع

 

لا يمكن الفصل بين الاتفاق الذي توصلت إليه الإمارات العربية المتحدّة والعدو الإسرائيلي وبين صفقة القرن الأمريكية، التي أكدّت السنوات الماضية بأنها لا تستهدف الشعب الفلسطيني فحسب، بل وأيضاً الشعوب العربية بسيادتها وثرواتها ومستقبلها السياسي والاقتصادي.. لذلك قلنا انّ نضال الشعب الفلسطيني يجب أن يتكامل مع نضال الشعوب العربية وشعوب المنطقة، لأنّ المشروع الاسرائيلي وعنوانه الراهن التطبيع إنمّا يستهدف بناء نظام إقليمي جديد وانشاء أحلاف سياسية وعسكرية في مواجهة ما يسمى "الخطر الإيراني".. وهذا ما يشكّل مساً فعلياً بالأمن والاستقرار في المنطقة وجب على دول المنطقة التنسيق والتعاون بهدف إسقاط جميع حلقات المشروع الامريكي الاسرائيلي بجميع اشكاله وعناوينه وفي مقدمتها التطبيع.


إنّ تطبيع علاقات بعض الانظمة الرسمية العربية مع الاحتلال، تحت أية ذرائع ومسميات، انما يلحق الضرر الشديد بالقضية الفلسطينية، ويشجّع دولة الاحتلال على المضي في تصعيدها الدموي ضدّ شعبنا في فلسطين. وبغض النظر عن أهداف هذا الاتفاق، أمريكياً، إسرائيلياً وإماراتياً، فهو يشكّل اختراقاً كبيراً في الحالة الرسمية العربية ويفتح ثغرةً جديةً سنحتاج الى وقت طويل من أجل اقفالها، ويساهم في اضعاف النضال الفلسطيني والعربي في مواجهة الاستهدافات الأمريكية والاسرائيلية لمنطقتنا.
أولاً: على المستوى الامريكي، وإن حاول البعض أن يربط بين توقيت الاعلان عن الاتفاق وتراجع شعبية الرئيس الأمريكي الذي يستعدّ لمعركة الانتخابات الرئاسية، وهو الذي لم يستطع تحقيق أي نجاح لا على مستوى مواجهة جائحة كورونا ولا على المستوى الاقتصادي، اضافةً الى فشله في تحقيق اختراقات جدية على مستوى السياسة الخارجية، خارج إطار العلاقة مع بعض الانظمة الرسمية العربية التي ارتضت لنفسها أن تكون أنظمةً تابعة مرتهنة في قرارها للتحالف الأمريكي الاسرائيلي. لذلك، فانّ هذا الاتفاق، بالنسبة للمواطن الأمريكي ليس بالقضية التي يمكن ان ترجح كفّة الجمهوريين، خاصة إذا لم يحدث اختراق ذات شأن في الموضوع الاقتصادي اولاً وانجاز خارجي ثانياً، وهو ما ليس متوقعاً بالمدى المنظور، الا انّه يبقى بالنسبة للإدارة الأمريكية جزءاً من النقاط التي يمكن استثمارها في الانتخابات الرئاسية حتى لو كانت بسيطة.
ثانيا: على المستوى الاسرائيلي، يبدو واضحاً أنّ رئيس وزراء العدو هو المستفيد الاكبر من هذا الاتفاق، خاصة في ظلّ عشرات الازمات والمشاكل التي تلاحقه، وعدم ثبات الائتلاف الحكومي الذي ما زال متذبذباً بين الذهاب الى انتخابات مبكرة أو الهروب الى الامام في عدوان جديد باتجاه شمال او جنوب فلسطين المحتلة. وبالمقابل لا يجب اغفال حقيقة أنّ بعض القوى الاسرائيلية لا تضعّ هذا الاتفاق في خانة الانجازات القومية الكبرى، وهي تستند في موقفها هذا الى أنّ التطبيع كان يسير على قدم وساق منذ فترة ولم ينقصه الاّ الاعلان. وقد كان لافتاً اعلان مصادر مقربّة من ديوان رئاسة الحكومة الاسرائيلية "أن الاتفاق كان جاهزا منذ أكثر من عام، لكن بسبب الانتخابات الاسرائيلية جرى تأجيل الاعلان عنه أكثر من مرة".
ثالثاً: أمّا على المستوى الإماراتي، تبدو مساحة الاستهجان والاستغراب تحتلّ كل حيّز، نظرا لأن الإمارات ليست من دول الطوق العربي أو من الدول التي حاربت اسرائيل عسكرياً، بل وانطلاقاً من بعض التسريبات الصحفية، ان العلاقة بين الطرفين تمتد لسنوات، وما حصل مؤخراً من زيارات رسمية ليست سوى فقاقيع لا تغيّر شيئاً من حقيقة أنّ التطبيع الرسمي أصبح متغلغلاً في العديد من الدول حتى بدون اتفاق رسمي. وربما ان مجموعة من الاسباب تضافرت فيما بينها لتدفع الإمارات الى خيار توقيع اتفاق مع اسرائيل، الذي هو أكبر من تطبيع ويرتقي الى مستوى تحالف سياسي. ومن هذه الاسباب خوف اماراتي مما يحصل في المنطقة من صراعات دولية على النفوذ، خاصة في ظلّ الحديث الدائم للولايات المتحدة برغبتها على الانسحاب من المنطقة أو تقليل عدد قواتها. وهناك سببٌ يتعلق بالسعي لتوفير الحماية ضد دول تعتقد الإمارات انها تشكّل تهديداً لها، خاصة مع احتدام الصراع في منطقة الخليج والمتوسط والصراع الطائفي والمذهبي الآخذ بالاتساع، وتزايد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية للاستفراد بالدول العربية واحدة تلو الاخرى في إطار السعي لبناء تحالف عسكري، يحتلّ صدارة الاولويات الخليجية وباعتبار التهديد الايراني خطر يوازي الخطر الاسرائيلي. وتخطئ الإمارات العربية كثيرا إذا اعتقدت أنّ تحالفها مع العدو الإسرائيلي سيوفّر لها حماية من خطر وهمي روجّت له اسرائيل والولايات المتحدة ووفرتا له كل مقومات النجاح عبر التحريض اليومي والحملات الاعلامية التي لا وظيفة لها الاّ تعميم الثقافة الأمريكية الاسرائيلية الهادفة الى صناعة رأي عام عربي جديد منسجم مع ما تسعى الولايات المتحدة الى فرضه على المنطقة. كما تخطئ ايضاً إن اعتقدت أنّ هذا الاتفاق سيبعدها عن دائرة التدخلات الأمريكية والاسرائيلية، بل المرجح أنّه سيفتح الابواب الإماراتية على مصراعيها وجعلها مشرّعة أمام العبث الاسرائيلي ليس فقط بأوضاع الإمارات، بل وبالأوضاع الداخلية للدول المجاورة التي عبّرت عن رفضها لهذا الاتفاق على أرضية مخاطره المتعددة.
في شقه الفلسطيني، لا يمكن ان نفهم هذا الاتفاق الا باعتباره جزءاً من عملية الضغط على الشعب الفلسطيني ومحاصرته للقبول بالحلول التصفوية المتمثلة بصفقة القرن وعنوانها المباشر خطة الضمّ والموقف من القدس وقضية اللاجئين والارض وغيرها من عناوين.. وهذا ما يؤكده على كل حال أكثر من موقف لرموز الادارة الأمريكية الذين عبّروا صراحةً ان الادارة سوف تسير في خطتها حتى لو رفضها الفلسطينيون، وهو أمر يعاكس الصيغة السابقة لمسار التسوية التي اعتمدت على تحقيق تقدّم في المفاوضات الثنائية لتخدم هدف الحلّ الاقليمي سواء على مستوى التطبيع أو غيره من عناوين، بينما الادارة الحالية انطلقت من الحالة الإقليمية لتطوّق الفلسطيني وتجبره على القبول بالحلّ الثنائي وفقا لإرادة ومشيئة اسرائيل.
إنّ الحديث عن استجابة ترامب لرغبة الإمارات بوقف عملية الضم، او أنّ الإمارات قدمّت تضحية بالقبول بالاتفاق مقابل وقف عملية ضم أجزاء واسعة من الضفة، انما هي محاولات كاذبة لتمرير هذا الاتفاق وبشهادة الاسرائيليين ونتنياهو شخصياً، الذي أكدّ ان خطة الضم تسير كما هو مخطّط لها، ولا علاقة لها باتفاق التطبيع.. وبالتالي فعلى الشعب الإماراتي الشقيق وقواه السياسية والاجتماعية أن يعلموا ان هذا الاتفاق سيدفع العدو الى مزيد من التعنت، وهو يعتبر أشبه بالهدية على جرائمه اليومية التي لا تستحق سوى المحاكمة الدولية، وليس توقيع الاتفاقات المجانية معه.
إنّ الموقف الفلسطيني الموحد والقوي الرافض للخطوة الإماراتية ومواقف القوى الشعبية العربية كانت سبباً لتراجع بعض الدول التي كانت تتهيأ لتحذو حذو الإمارات. وهو أمر طبيعي نجدّد التأكيد عليه بأنّ صلابة المواقف العربية والدولية الشعبية والرسمية تتأسّس على قوة وصلابة الموقف الفلسطيني، الذي كلمّا كان مساوماً ومهادناً كلما خفّ وهج الحركة الشعبية وتراجعت فعالياتها الداعمة لشعبنا. وكلمّا كان الموقف الفلسطيني الرسمي صدامياً وهجومياً، كلمّا اتسعّت دائرة التأييد والدعم الشعبي والرسمي لشعبنا الفلسطيني.
نختم لنقول: إذا كان اتفاق اوسلو قد شكّل الذريعة لكل من هرول مطبعاً، فان المطلوب فلسطينيا اليوم هو سحب الغطاء من هؤلاء وتعريتهم، واعطاء المجال لقوى التغيير العربية كي تأخذ طريقها في النضال من اجل اقتراب انظمتها أكثر من الحقوق الفلسطينية، وذلك بالقطع الكامل مع الاحتلال وسحب الاعتراف به وباتفاق اوسلو وكل ملحقاته الامنية والاقتصادية والسياسية، والعمل على تشكيل جبهة موحدّة ضد التطبيع وبناء استراتيجية شعبية عربية تضغط على النظام الرسمي. ونعتقد ان هذه مهمة ومسؤولية الأحزاب العربية وباقي مكونات الحالة السياسية والجماهيرية، في الدول العربية الشقيقة، تجاه مقاومة المشروع الأميركي الصهيوني الذي يستهدف منطقتنا العربية دون تمييز.
إنّ الشعب الفلسطيني يؤكّد ثقته بالقوى السياسية والمجتمعية العربية في تحمّل مسؤولياتها الوطنية والقومية أمام شعوبها ودفاعاً عن قضية فلسطين. ومسؤوليتها ايضاً تجاه مقاومة المشروع الصهيو-أميركي. فالحركة الشعبية بجميع تشكيلاتها معنية بمواجهة سياسات التطبيع المتزايدة بمختلف أشكاله، ومحاكمة أصحابها وعزلهم شعبياً والتعاطي مع المطبعين كمجرمين بحق مجتمعهم وبحق القضية المركزية للعرب، يجب ان يعزلوا اجتماعياً ويعاقبوا قانونا التزاما بقرارات القمم الاسلامية والعربية التي ما زالت، من الناحية النظرية، ترفض التطبيع مع اسرائيل باعتبارها عدو العرب والمسلمين. انّ كل خطوة تطبيع وشراكة مع دولة الاحتلال الاستعماري، هي ضربة قوية توجّه إلى القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وإسناد مكشوف لدولة الاحتلال وهي تنفّذ مشروع الضم الراهن، وتعمل على تهويد القدس، وابتلاع الأقصى، خطوة خطوة، في اجتياحات المستوطنين لساحاته، وفي الحفر في أساساته، ما يهدّد، في الحالتين، وجوده لصالح الخرافات والأساطير التهويدية والمشروع الصهيوني.
(*) عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين