خلفيات وتداعيات التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني الغاصب


إنّ أهمّ عامل للتقارب بين دول الخليج والعدو الصهيوني، هو تجذر شعار العدو العربي – الإيراني، كبديل عن شعار الصراع العربي- الإسرائيلي. لقد سعت الادارات الأميركية المتعاقبة، وعلى مدى سنوات، في الدفع نحو التقارب بين الكيان الصهيوني ودول الخليج، وكانت ترتكز في هجومها السياسي والدبلوماسي على السعودية، كونها قائدة دول الخليج في مجلس التعاون الخليجي، والأقوى ان من حيث التأثير أو الموقع الاقليمي. إلّا أن الإمارات كانت السبّاقة، وفاجأت الجميع، خاصة وإنها ليست من الدول العربية المجاورة، ولو نسبياً مع الكيان الغاصب. ويبدو أنّ الادارة الأميركية وخاصة الرئيس ترامب، بحاجة إلى انجاز ما، يستخدمه في معركة الانتخابات الرئاسية، التي سيقودها في تشرين الثاني القادم، وذلك لإرضاء اللوبي اليهودي، الذي يعتبر ورقة قوية في صندوقة الاقتراع، خاصةً بعد خسارته لعدد كبير من الناخبين من أصول أفريقية، بعد حادثة القتل المتعمّد لمواطن من قبل شرطي أبيض، مشبع بالكراهية والعنصرية، وانحياز ترامب وبكل وقاحة إلى رجال الامن وبشكل عنصري وفاشي، وتأييده للقمع الوحشي الذي مارسته الشرطة في قمعها للاحتجاجات التي شملت كل الولايات الأميركية تقريباً.

لم يعد باستطاعة ترامب الانتظار، فتوجه مع ادارته نحو الإمارات، ليعتبرها القوّة الدافعة للتقارب مع الكيان الصهيوني، في هذه المرحلة التي يحتاج فيها إلى تحقيق تقدم في المعركة الانتخابية بعد ان بيّنت الاستطلاعات الاحصائية تقدّم الديمقراطي جو بايدن عليه بالنقاط وبفارق كبير نسبياً. أضف إلى ذلك، انّ السعودية لا تزال أسيرة المقولة التي ترددها، الا وهي التمسك بالمبادرة العربية، التي قدمتها السعودية في مؤتمر القمة الذي انعقد في بيروت. ومع ان الخلاف في الرأي بين ولي العهد السعودي ووالده الملك، وان كان الامر سيحسم في النهاية لصالح ولي العهد الذي ينادي بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي الأن. لان الملك مريض ويقترب من نهايته، وفي اية لحظة قد يفارق الحياة، الاّ أنّ ترامب بحاجة إلى الانجاز الان وفي الشهرين المقبلين بالتحديد.
كذلك دول الخليج وفي مقدمتهم الإمارات، التي وإلى جانب الضغوطات الأميركية، ترى انها بحاجة إلى التقارب مع العدو الإسرائيلي، وذلك يعود إلى توجسها والخوف الذي تمّ زرعه من العدو الافتراضي الجديد، من قبل السعودية والادارة الأميركية بقيادة ترامب. الذي جعل من ايران (الشيطان ) شغله الشاغل، ولا يكاد يمرّ يوم واحد، دون موقف أو تصريح أو هجوم على ايران، من العقوبات الشبه يومية، إلى الاتفاقية الدولية النووية، وآخرها ما تقدم به من مشروع عقوبات إلى مجلس الامن، صوتت إلى جانبه دولة الدومينيكان فقط، فتلقّى صفعةً أمميةً ودوليةً مدوية الا انها برأينا لن تثنيه عن مثابرته، في السعي لكسب نقاط ولو بالكذب كما اتهمته اخته في تصريح اعلامي. وكان قد سبق هذا الأمر صدور كتاب مدوّي لابنة أخيه تحدثّت فيه عن الصفات التي يتمتع بها ترامب والتي لا تليق الا "بزعران الازقة والصعاليك".
الاتفاق الإماراتي ليس ابن ساعته بل نتيجة سيرورة
سؤال بديهي: هل الاتفاق وليد مرحلة راهنة تخدم ترامب والإمارات، ام إنّ هذا الاتفاق له سيرورته التاريخية التي أوصلت اليه؟ هل هو وليد لحظة تاريخية ام حالة سياسية واقتصادية، ونتيجة حروب تخاض في بلدان عربية وعليها، سواء في سوريا او اليمن والعراق وليبيا، أدّت إلى اصطفافات في هذا المحوراو ذاك، قد يكون لذلك تأثيراً سرّع في عملية التطبيع، الا أنّ الكثير من العلاقات بين الجانبين تم التأسيس لها منذ مؤتمرمدريد، الذي انعقد بناء على دعوة الولايات المتحدة الأميركية، عشية معاركها في الكويت والعراق الذي دخلته كدولة محتلة ولا تزال فيه حتى الان. مؤتمر مدريد عام 1991. الذي وقع فيه العرب في الفخ الصهيوني، والذي روّج لمقولة أنّ السلام قادم، ولاثبات حسن النية، طالب الكيان الغاصب، باسقاط القرار الذي اتخذته الامم المتحدة باعتبار الحركة الصهيونية كالنازية حركة عنصرية واحدة. وكان الالغاء بطلب من الدول العربية، والفخ الصهيوني الثاني توقيع اتفاق اوسلو بعد سنتين، مع منظمة التحرير الفلسطينية. بموجب هذا الاتفاق، اعترفت الاخيرة بدولة "إسرائيل" أمّا العدوّ الغاصب اعترف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. الجدير ذكره أنّ المنظمة تحظى باعتراف أكثر من 128 دولة وتتمتع بعضوية عضو مراقب في الامم المتحدة. ونسأل هنا: ماذا اضاف لها الاعتراف الصهيوني بها؟ فقدمت المنظمة تنازلاً تاريخياً باعترافها بدولة العدو مقابل لا شيء. ورأينا إلى ماذا أدّى اتفاق اوسلو المشؤوم فهو لم يؤدِ إلى قيام دولة فلسطينية كما كان متوقعاً، ولا مفاوضات الحلّ النهائي بدأت بعد سنتين من توقيعه. انّ مسار أوسلو والمفاوضات العبثية المرافقة له قادنا، وبعد ٢٥ عاماً من دخوله حيّز التنفيذ، إلى صفقة القرن أي إلى تصفية القضية الفلسطينية. ولا ننسى ان مؤتمر مدريد قاد ايضا إلى اتفاق وادي عربة بين الاردن والكيان الصهيوني ليتعرّض الاردن الآن إلى خديعة صهيونية جديدة، بموجب هذا الاتفاق. اذ طالب العدو الإسرائيلي باستئجار اراضي غور الاردن لمدة 25 سنة، ومن ثم تم تمديدها إلى 50 سنة، واليوم يعمل العدو الصهيوني، على ضم غور الاردن، إلى كيانه الغاصب نهائيا، بالإضافة إلى ضمّ الجولان السوري المحتل والضفة الغربية بدعم من المسيحية الصهيونية التي ينتمي اليها الرئيس ترامب.
وبما ان اتفاق اوسلو لم يحقّق السلام المنشود بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين، غيرت الادارة الأميركية باستراتيجيتها، فيما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي. فتوجهت إلى سياسة التطبيع مع الدول العربية، فبعد مصر والاردن، توجهت نحو دول الخليج، لان الحروب الداخلية المنهكة للدول العربية المجاورة، لم تصل إلى خواتمها بالسرعة التي كانت تتوقعها الادارة الأميركية والعدو الصهيوني، اي المشروع الاميركي- الصهيوني لا يزال يتعثّر، ويلاقي صعوبات في انهاء المعارك لصالحه، أي تحقيق الامن النهائي لما يسمى "دولة إسرائيل"، ووضع اليد بقوة على ثروات البلدان العربية، عبر اخطبوط الشركات الأميركية العملاقة.
علاقات سرية امتدت لسنوات بعد مدريد
لقد شهدت العلاقات بين الكيان الصهيوني ودول الخليج، تطوراً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وكانت تشي بذلك الزيارات المتتالية، وان بشكل سري، بين مسؤولين رسميين صهاينة إلى دول الخليج وبالعكس، ليصار إلى الاعلان عنها فيما بعد. فالحديث عن وجود ممثليات صهيونية تجارية واقتصادية في عواصم دول الخليج، كان يتم همساً، وتحت مسميّات عديدة وشركات دولية، في حين كانت تتمركز في تلّ أبيب. (يمكنكم قراءة التسلسل التاريخي لمسار التطبيع بين البلدين في الصفحة ١٢).
السياحة الصحية وشركات أمنية
المستشفيات الصهيونية كانت ولا تزال تقوم بمعالجة الكثير من أغنياء الخليج، بدل الذهاب في رحلة سفر طويلة إلى أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية. ولقد قرأنا في عدد من وسائل الاعلام الغربية أخبار عديدة تتعلّق بامتلاك بعض الامراء والملوك العرب لقصور أو فيلات في نهاريا المحتلّة. الاخطر من ذلك أنّ الإمارات تستقطب اليها ضباطاً من مخابرات الكيان الصهيوني السابقين، للعمل في شركات أمنية خاصة اماراتية وبرواتب خيالية. وكذلك قدّم وزير خارجية العدو الصهيوني مذكرة لوزراء خارجية الدول الخليجية لتوقيع اتفاقية حماية بين الكيان الغاصب ودول الخليج.
الإمارات ليست الأخيرة
الإمارات ليست الدولة الوحيدة او الاخيرة، التي تسير على درب التطبيع، واقامة علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني. والعلاقات الطبيعية تعني كافة نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية والأمنية وأخيراً الديبلوماسية. فدولة البحرين بدأت بالزيارات السياحية، وحضور شركات صهيونية "رافييل"و"اي ايه اي" وبدعوة من مجموعة 42 الامارتية، للتعاون في المجال الصحي لمكافحة وباء كورونا المستجدّ. كما أن قطر تستعدّ لمشاركة الكيان الغاصب في الالعاب الرياضية عام 2022 . أما التطبيع الثقافي بين السعودية والكيان الغاصب، فحدّث ولا حرج. الكثير من مدرسين ودكاترة في الجامعات السعودية يتحدثون في محاضراتهم عن الحقّ الطبيعي والالهي والتاريخيّ لليهود في فلسطين، والمضحك أنّ البعض يستشهد بالقرآن الكريم، وذلك بانه لم يتحدث عن فلسطين بتاتاً، في حين تردّد اسم اسرائيل عشرات المرات، والبعض الآخر يستشهد بروايات وميثولوجية وأساطير تستند اليها الحركة الصهيونية، لتبرير اغتصابها لفلسطين، وهي استندت بالاساس في قيامها وبناء كيانها المصطنع الغاصب، إلى الدول الاستعمارية، وفي طليعتها بريطانيا وامريكا، لاستخدامها كقاعدة متقدمّة لها في المنطقة لنهب ثروات الشعوب وربطها تبعياً بها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. اما فتاوى رجال الدين في السعودية التي تتحدّث عن تحريم الصلاة للفلسطينين في المسجد الاقصى فهي قمة الغباء، والعمالة، والخيانة.
كيفية التصدي وقوى الصمود
انّ الرهان الوحيد في التصدي لكل عمليات التطبيع ونهج الاستسلام وتصفية القضية الفلسطينية، هو العمل على قيام جبهة نضال بمروحة تضمّ كل القوى الوطنية التقدمية اليسارية العالمية، وقيام مقاومة عربية شاملة، ودعم غير محدود للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، ودفعه إلى التوحد حول برنامج نضالي موحد واستراتيجية موحدة. أمّا من اخطأ في حساباته ورؤيته ونهجه، الذي قوّض الفعل المقاوم وحذفه من ميثاق منظمة التحرير، وأخفق في رهانته السياسية، فله أن يتنحى لجيل ثوري شاب، يعطينا في انتفاضته المجيدة المستمرة بارقة أمل داخل الاراضي المحتلة، ويعلمنّا كلّ يوم دروساً في أدوات وأشكال النضال الثوري التحرري لتحرير فلسطين .. كل فلسطين.