فضل شاكر وهوى الجنوب المحتل

أطلق أولى أغنياته عن الحب من داخل مخبئه، بينما كان الطيران الحربي يجدّد قصفه على قريتي التي كنت فيها يوماً مراهقة عاشقة تستمع ل "يا حياة الروح".
يعود فضل إلينا، غير مكترث بالمكان الضيّق الذي احتوى قضيّته لأنه يعلم بأن مخيم عين الحلوة لم يكن فقط نافذة هروب المطلوب من العدالة، بل هو السقف الآمن الذي حما مشاعر المطرب عبر سنين وآمن ببراءة الصوت الذي جاهر باعتزاله في لحظة تخلّي كان يدري صاحبها بعاقبة الذنوب.

عاد الصوت الذي اعتدناه وكما هو "منوّر".
اخترق بابتسامته وهو يغني للحب جدران حكم ضحايا فتنة أحمد الأسير، وكأنه يطالب من خلالها جمهوره لا هؤلاء بأكثر من استماع وفرحة بالإصدار، فهو لا شك ينتظر من محبّيه إعفاءاً عن مرحلة غوت شهرته بالحديث عن متعة "رضى رب العالمين" عند دخولك خندق الأجندات المأجورة ليتبدّل حالها لاحقاً وتصبح شهرة تحرّم الغناء عن الحب أي "شهرة بالحلال" يوصي بها من جعل من هذا الفنّان خطيب مساجد الذقون الرديئة.
عاد فضل برواية مجتزأة، لأنه لا شك أراد للباقي منها أن يحجبه عن الحقيقة التي يعلم تماماً بأنها لن تبرؤه ولأنه يعلم أيضاً بأن هذا الجمهور بأغلبيته أو أقليته لا يكترث سوى للأنغام التي تشتته عن الرواية الكاملة. فعاد للغناء عن الفراق وبموقف متمايل يجعل من كلامه عن الحب حرية تساعده بالعودة إلى دياره دون أصفاد السجن الطويل.

لكنني أبحث جيدًا: عن أي ديارٍ يتكلّم فضل شاكر؟

هذه الديار الملكومة، التي أعيش فيها بأنفاس متقطّعة سبّبها العدو الإسرائيلي، وهي الديار التي جعلت من الفنّان جهادياً ممكناً في قافلة الانتحاريّين، فورّطته بخطابها المشحون الذي أسعفه وغذّاه شيخ المعارك المذهبيّة، والذي أفضى على المدينة خراب العداء الطائفي.
تناست هذه الديار نجاتي من بارود المجرم، كما جعلت من الحب الذي يغني له المطرب حكماً له ذريعته، وكانت الذريعة دائماً أن النظام الذي ألحق الضرر بفضل، وهو النظام الذي يتباهى بتصفية العدو لنا، أعظم من أن يُساءل أو يُحاكم.

أنا أيضاً يا فضل، من الذين لم يصبهم التهاون بسبب أغنية جميلة، ذاكرتي كما الآخرين لا بأس بها. لم أكن مذهولة بالتحوّل المخزي الذي أصابك يومها، ولكنني كنت قريبة من الجامع الذي منه خرجت تكبيرات الفتنة الكبرى التي أرهبت المدينة وضواحيها، فحُرمت مع عائلتي من التواجد في أسواقها لفترة، كما حرمتك أنت أيضاً من التعقّل قبل الانجرار إليها، حدّ التباهي بالتهديد بالبارود لكل من استدرك ما يُحضَّر من وراء شاشتك المعتزلة.
أعلم أن هذه الديار خذلتنا جميعاً، وأنّ ما ينتج عن انقطاع الأمل ليس سوى أفراد محبطة تتشكّل وتتكاثر ذخيرتها لتقرّر الانصياع إلى تطرفها، علّها بذلك تسترد حقوقها وتحمي معسكرها.
لا أتعاطف أبداً مع تلك السياسة التي تبنّاها فضل أثناء دخوله مشهداً مأجوراً في مدينة صيدا لا شأن له به، إلا أنه خاضه متناسياً أو متعمّداً أن الخطيب الذي كان يقف إلى جانبه استغلّ حماسة المرهف إنسانياً، فاستثمر ظاهرته، ولكن في تلك المرة كانت شهرة مقابل أن يفاوض جمهوره على مشهد الفوضى الذي تسبّبت به معركة الشيخ الأسير.
رغم ذلك، أصدق نصف رواية فضل بأنه مظلوم. لا أشكك في حبّه الصادق لهذه الديار، حتى حين كان محرّضاً. أشعر بأن حالي كما حال فضل اليوم في الاستغاثة.
كل يوم، وعند كل استهداف من الإسرائيلي، أستغيث للجهة التي تعبث بالوقت، بينما يلهيها افتتاح مقاهٍ وسط البلد، لأن واجهة الديار التي يسعون لها ليست هي الديار التي تنصفنا، أنا وفضل.

ليست بصدفة بأن المكان الذي يعزله أسياد البلد ويستحقرونه كمخيّم عين الحلوة والذي أعاد إحياء الفنان بنسخته الأصيلة هو من أبعد فضل شاكرعن قبضة الظلّام، هو من وضع المتهّم ذات الصيت السيء لاحقاً تحت رحمة العاطف وليس تحت رحمة المنتقم.
توارى صوت الفنّان مع ظلال أبناء المخيّم من الجنسية الفلسطينية، فهؤلاء وحدهم يستطيعون إخبارك عما يعنيه أن تكون لا مرئي في بلد ينتهك فرصتك الوحيدة في الدفاع عن قضيتك.
عندما تكون مظلوماً تلجأ للمظلوم مثلك.
عندما تكون وحيداً وسط المعركة تنظر إلى الشخص الذي يعاني وحدة أشد منك.
فضل دخل وكر المستضعفين على هذه الأرض، لا يعنيني تلك الخلفية السياسية التي تكفّلت باستمرارية حمايته داخل هذا المخيم ولا بمن كان محاط من مرافقة، غير أنني دخلت مثله يوماً هذا المكان الذي لطالما أوهموني بأن دخوله ليس مثل خروجه.
لكن ها هو الفنان يطل من على مسرح المنسيّين من مخيم عين الحلوة وسط زحمة المسارح المتكلّفة التي شيّدها من تنصّل من عدالة فضل.. وعدالتي.

بينما أستمع ل"هوى الجنوب" أتبيّن بأن الحرب جعلت مني إمرأة محطّمة بالكامل، لم يكن رجل من كسر قلبي بل هذه الديار التي عوّلت عليها رغم أنها حين علمت بأننا أهلٌ لقصّتنا لم تستمع إلينا ولم تصدّقنا حتى أنها زيّفت مسار قضيتنا وراهنت على استضعافنا في شدّتنا.
هذه البلاد التي حوّلتني إلى مستمعة لا تشعر بشيء، مثلها. مستمعة بقلب بارد. مستمعة غير آبهة ب"كيفك ع فراقي" لأنني على عكس فضل لم أعد أحن مثله ولا تعنيني تلك الذكريات التي كانت قبل العدوان.
عندما عدت إلى الديار لم أغنّي لها، ذرفت الكثير من الدموع. لا أملك موهبة فضل شاكر في مسامحة نفسي إلا أنني مثله أكافح كي أستعيد حرّيتي.

فضل أراد العودة على كيفه لذلك انفرد بحبكة جديدة لما حصل ورغم فوضى أحداث عبرا قاوم الحواجز الفاصلة التي حيكت له لتكون قوّاضة سرديته المشبوهة فتحدّى بألحانه قانون الهلاك الذي يمنعه من الصعود إلى مسرح وسط البلد ليكون بين جمهور ولكنه كان رغم ذلك.
جاء صوت الفنان من مخيم عين الحلوة ودخل مصيدة محبيه متجنباً مصيدة المعادي له لأنه يعلم بأن النجاة عبر فنّه ورقة رابحة.

في العودة إلى جمهورك سلامة.
عندما رميت ذلك السلاح المتطرّف كانت ألف الحمدالله على السلامة.
إلا أنني بانتظار العودة الكاملة لعلك بعدها تخلع عنك تلك النظارة أثناء غنائك، وتتكلم إن أردت عن النصف الآخر من القصة كاملة وتعترف بأنك مذنب رغم براءتك، لعلّني حينها أستطيع الشعور بالحب الذي تغنّي له.