القطاع التعليمي الخاص: صراع من اجل البقاء

كان من الصعب أن أتصور يوماً هكذا عنوان لمثل هذه المقالة، فنظرية صراع البقاء التي أوجدها وأسسها العالم البيولوجي شارلز داروين لم تكن معدة أو مجهزة إطلاقاً ليستهويها شاب من لبنان، ويضفي بثقلها على مقالة صحافية أو ليستخدمها في أدابياته النقدية في الاقتصاد والاجتماع. هذه النظرية البيولوجية كانت مخصصة لأن تبقى محصورة في ميدان علوم "الطبيعة"، الا أن اوضاع البلاد "غير الطبيعية" أرغمتنا على الاستعان بها لوصف الوضع الحالي بقدر بسيط من الشفافية و الوضوح. 

لطالما تغنى البعض بمستوى لبنان التعليمي والتربوي، وذهب البعض الاخر باجتهاده ليصف لبنان "بمدرسة الشرق"، فهذه الصفات، ولو كانت مبالغة، طبعت في نفس كل واحد منا القليل من الفخر بالانتماء الى هذا الوطن، فخر أصبح بندرة العسجد في هذه الايام. مثل كل السرديات والمقولات الايديولوجية المحرفة او المضخمة، هي، وبالرغم من عدم صحتها، مبنية على شيء من الحقيقة الصحيحة. 

احتضن لبنان منذ بدايات القرن التاسع عشر، حتى قبل ذلك، مؤسسات تعليمية مرموقة كانت لها الدور الاكبر في ادخال العلوم والمفاهيم الحديثة الى البلاد، وفي استنهاض المواهب الادبية والشعرية والفكرية. ومعظم هذه المدارس تابعة لارساليات دينية أوروبية وأميريكية مما وسع هامش حركتها، ومكّنها من تحقيق الكثير من الانجازات العلمية، سواء على صعيد لبنان أو على صعيد المنطقة، ومنها على سبيل المثال مدرسة عين ورقا في غوسطا في منطقة كسروان، التي تأسست عام 1798، والتي أطلق عليها إسم "أم المدارس في الشرق"، ومدرسة عينطورة التي تأسست عام 1834، على يد الاباء العازاريين، وأيضاً تأسيس الكلية السورية الانجيلية، التي سيعاد تسميتها الجامعة الاميريكية في بيروت، عام 1866 على يد المبشر الانجيلي دانيال بليس. 

يمكن وصف القرن التاسع عشر بعصر التعليم الذهبي، الا أن هذا بات مدفوناً في اعماق صفحات التاريخ، التي طوتها عنوة الازمة الاقتصادية العنيفة التي عصفت بربوع بلادنا. تتغلغل الأزمة الاقتصادية في يومياتنا أكثر فاكثر كل يوم، كالسرطان الذي ينهش ببطئ جسم الانسان، تاركاً ورائه اشلاء متقطعة تنبعث منها رائحة الموت العفنة. لم ترحم هذه الازمة القاتلة القطاع التعليمي الخاص، بل عاثت به خراباً تاريخياً شبيهاً بخراب بابل العظيم. 

لابناء القطاع التعليمي الخاص هواجسهم ومخاوفهم حيال الازمة الحالية، ولهذا القطاع  ثالوثه المقدس: الاساتذة، الطلاب ومدراء المدارس. يجلس بين الكتب والمجلدات، انطوان يزبك، أستاذ مواد الفلسفة والادب الفرنسي، متحدثاُ عن الازمة التي تهدد القطاع التعليمي الخاص. في منزله الواقع في السهيلة الكسروانية، يروي الاستاذ المترمس منذ أكثر من ثلاث عقود في التعليم، عن عملية إعدام أي أمل بقطاع تربوي سليم. رغم ابتسامته وصفاء ذهنه، لم يتردد عن وصف تجربته التعليمية بالـ"مريرة". 

يسرد يزبك بحسرة مسيرته التي اوصلته الى التدريس "بالصدفة"، على حد تعبيره، جراء الازمة الاجتماعية في الحرب، فكان اللجوء الى التعليم كخشبة الخلاص الوحيدة آنذاك. كانت شكاويه كثيرة ومترامية الاطراف، تصيب المسؤولين عن المدارس وغيرهم مِن مَن أمعن "في إذلال الاساتذة و التربويين"، متهماً إياهم بتسليع القطاع التعليمي والعمل بـ "التجارة" كما يقول. تعمق في شرح مأخذه، فذكر مثلاً أنه عمل طوال مسيرته كمتعاقد، ورفض تثبيته لقلة ساعات الفلسفة المدرجة في المنهج، و براتب هزيل لم يتجاوز المليون وخمسمائة الف ليرة لبنانية، وهو مبلغ بات الان غير كافٍ لتلبية أبسط حاجيات الحياة، من مأكل وشرب وسكن. 

يعود الى سنوات التعليم، ويشرح كيف رمت الازمة الاقتصاجية بثقلها على المهنة، ويقول  "كنت أستاذاً في إحدى أكبر المدارس المنطقة، كان الجسم التعليمي يضم 420 أستاذاً، تقلص عددهم بشكل حاد منذ ما يقارب الاربع سنوات، حين عمدت إدارات المدارس الى حملة صرف جماعية، فطرد على إثرها كل عام ما يقارب الخمسين أستاذاً، ليصبح عدد الاساتذدة المتبقين الآن حوالي 150". تشير هذه التدابير الى احتمال معرفة المدارس بمسار الامور السلبي الذي ستتخذه هذه الازمة، وبالتالي عمدوا الى تقليص مصاريفهم، وتسابقوا الى رفع الاقساط.

وعن رأيه بالجسم التعليمي الان في المدارس الخاصة، لفت يزبك الى أن بعض المدارس تلجأ الى توظيف أشخاص لا يمتلكون إجازة تعليم، وغير متخصصين في مجالاتهم، مشيراً الى أنه "هنالك فوضى كبيرة". تحدث يزبك مطولاً عن التأثيرات النفسية للتعليم عن بعد، فقال انها كبيرة وخطيرة جداً، مؤكداً أن العملية التربوية لا تقتصر فقط على تلقين المعلومات، بل ترتبط أيضاً على التواصل المباشر بين الطالب والاستاذ، الذي بات منقطعًا جراء جائحة كورونا، ما احدث عدة حالات اكتئاب ووحدة. 

يشير الواقع الذي وصفه يزبك الى خراب البلاد، اذ لن يبقى لا حجر ولا بشر ولا مؤسسات. من جهتها، كانت استاذة اللغة العربية وادابها اميلي قسيس ضحية مبكرة لبوادر الازمة، فهاجرت للعمل في قطر بعد كفاح طويل في أعداد أجيال هذا الوطن. اطلت قسيس من خلف حاسوبها  من العاصمة القطرية، متجهمة الوجه، عن غير عادة، موحيةً أن لديها الكثير لتقوله.

في عرض عن واقع القطاع التعليمي الخاص ما قبل الازمة وما بعدهاـ أشادت قسيس بتاريخ القطاع التربوي في لبنان، واصفةً إياه بالعامود الفقري للوطن، من دون أن تتجاهل أن هذا القطاع، حتى قبل الازمة كان بحاجة لاعادة تأهيل. وتضيف قسيس أنه كان يجب إعادة النظر بالرواتب قبل الازمة فكيف الان؟ 

تصف قسيس الهجرة كنتيجة مباشرة للازمة، وتقسمها الى هجرتين، حركة هجرة الاساتذة الى الخارج، وحركة هجرة داخلية للاساتذة من المدارس الخاصة الاقل تمويلاً الى الاخرى الاكثر غناء، وهناك من نوه أنه عند إشتداد الازمات المؤسسات الرأسمالية الكبرى ستطيح بالمؤسسات الاصغر حجماً. شنت قسيس هجوماً عنيفاً على التعليم عن بعد، متهمتاً هذه الطريقة أنها قطعت التواصل بين الطلاب والاساتذة، وبين الطلاب أنفسهم أيضاً، مما يؤدي الى كوارث نفسية وإجتماعية. وأضافت أن الاكثرية الكبرى من الاساتذة لم يكونوا مدربين على هذه التقنيات، مشيرةً الى أن العملية التربوية إختلت بسبب غياب التفاعل المباشر.

تحدثت قسيس مطولاً عن تهميش القطاع التعليمي الرسمي لمصلحة القطاع الخاص، مشيرةً الى أن ذلك سبب رئيسي لتأزم الوضع التعليمي في لبنان، وتسألت قسيس مراراً "من هو مواطن المستقبل؟ أي مواطن يريدون؟ أهو المحروم من أدنى حقوقه خاصةُ من التعليم؟ أيريدون شعب من الجهلة؟".

توافق قسيس على فكرة أننا نتجه الى عملية فرز طبقي للقطاع التعليمي الخاص، مؤكدةً اننا عائدون الى ايام "لمين عم علم كامل". وختمت بالقول بثقة "التعليم هو كل شيء". 

تطرق المسؤول التربويّ في المدرسة اللبنانيّة الالمانيّة روني غريوس الى هجرة الاساتذة وقال أن "عدداً كبيراً جداً من الاساتذة قد غادروا البلاد لتأمين معيشتهم في الخارج، ممّا سيؤدّي حتماً الى تراجع المستوى التعليميّ"، كما ينطبق الامر على الطلاب الذين يسافرون افواجاً. وفيما خص الاقساط وأسعار القرطاسية، يحذر غاريوس من ارتفعها الدراماتيكي، معتبراً أننا قادمون على إنفجار إجتماعي حتمي. 

تواجه ادارات المدارس الخاصة صعوباتٍ عدة، ومنها، بحسب غاريوس، "هي ماليّة بسبب غلاء المعيشة وإرتفاع أسعار القرطاسيّة والمحروقات. وطبعاً هناك بعض الصعوبات المرتبطة بالوضع الصحيّ" . لكن اللافت انهاء غاريوس الحديث بجو من التفاؤل مؤكداً ان القطاع التعليمي سينهض رغم الصعوبات الجمى والتحديات الملقات على عاتقه. 

أما الطلاب، الواقعون تحت رحمة النظام وأزماته، ترى ريان أن المشكلة الاساسية تكمن  في عدم وجود حدود للعمل التدريسي، فيحمّل الاستاذ الدرس على الصفحة في وقت متأخر مثلاً، ما يلزم الطلاب ان يبقوا متنبهين ومستعدين في كل زمان ومكان، ما يحرمهم من اوقات الراحة المطلوبة والضرورية. اما المشكلة الثانية كانت استصعاب التركيز على الشرح من وراء الشاشات ما يعيق في اغلب الاوقات استعاب الدروس المعقدة، خاصةً بعد ازمة المحروقات الاخيرة التي تمنع الطلاب حتى من متابعة الدروس عن بعد.

يصارع القطاع التعليمي اليوم من اجل البقاء، اكان من وجهة نظر الاساتذة، المدراء او الطلاب. تختلف المشاكل من المالية والتقنية الى النفسية والواقع ذاته: مشهد سودوي ينذر بالاسوء.

فعلاً دق الجرس ولكن الخوف يكمن في أنه سيدق للمرة الاخيرة.