التحرير والتغيير وما بينهما

عندما أطلق الحزب الشيوعي اللبناني جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عام 1982، كان يطلق مقاومةً ليس لتحريرالارض فحسب، على أهميتها ورمزيتها، بل بالدرجة الاولى لمواجهة المشروع الأم، المتمثل بالهيمنة الامبريالية على شعوبنا والتي يشكّل الكيان الصهيوني إحدى أدواتها القمعية الفاعلة. في السياق ذاته، فالقضية الفلسطينية هي قضيتنا المركزية ليس لعدالتها ولقيمة أرض فلسطين فقط، على أهميتهم، إنما ولنفس السبب باعتبار "اسرائيل" هي القاعدة المتقدمة لمشاريع الهيمنة والتفتيت في المنطقة والتي تشكل عائقاً أساسياً أمام شعوبنا لبناء مشروع جامع بينها يضعها على طريق الإنماء والتطور.
لذلك ينتهي الاحتلال ولا تنتهي المقاومة.

لقد ساد داخل الحزب الشيوعي في الحقبة الماضية، وبالتحديد بعد المؤتمر السادس وتحت تأثير انهيارالاتحاد السوفياتي وانتهاء دور الحزب المقاوم الذي تزامن مع اتفاق الطائف الذي أنهى حرباً دامت قرابة الخمسة عشرسنة شارك الحزب فيها، ساد توجهٌ اعتبر أن "التحرير قد أُنجز (باستثناء مزارع شبعا)" ولذلك على الحزب الانكباب على معركة التغيير الديمقراطي معتبراً أن عملية التغيير هذه تخضع بشكل أساسي لاَليات وميكانيزمات داخلية مرتبطة بطبيعة النظام وتركيبته الطائفية وفساده وغيرها، وأنه بالإمكان إحداث التغيير عبر النضال المطلبي المباشر بطبيعته الطبقية. انطلقت تحركات الحزب، المطلبية منها وتلك المرتبطة ببناء كتلة شعبية، من هذا التوجه وهذه الرؤية وأقيمت لتدعيمها مروحة كبيرة من التحالفات مع أطياف كثيرة من المجتمع المدني وغيره، لا تشارك بالضرورة الحزب في مفهوم "التحرير". قد لا يكون ذلك مهماً إذا أقرّينا بأن التحرير قد أُنجز ولم يعد مادة خلافية ولا يشكل التناقض الرئيسي.
لكن التحرير لم يُنجز بعد.
ليس لأن مزارع شبعا لم تُحرّر بعد أو لأن هنالك خطر "إرهابي" على الحدود، بل لأننا لا نزال في خضم معركة المواجهة مع الامبريالية وأدواتها. إن التحرير ليس تحرير الارض بل تحرير قرارنا وقوانا المنتجة من الهيمنة والاستتباع كي نمضي قدماً على طريق بناء مستقبل مشترك لشعوبنا يؤمن مصالحها.
أطلق الحزب المقاومة العربية الشاملة بالتوازي مع حراك التغيير الديمقراطي ولكن بالطبع دون أية بلورة لاَليات عمل واضحة وبالتالي دون خطة لتحالفات جدية في هذا المجال. فأصبح هنالك مساران متوازيان لا يلتقيان: مسار التحرير ومسار التغيير وكأنهما وصفتان منفصلتان لمشكلتين لا علاقة بينهما، يجوز استعمال كل واحدة منهما عند الحاجة وحسب الظروف.
إن التغييرهو جزءٌ من التحررالوطني وليس مسار منفصل عنه. والنضال من أجل التغيير خارج حركة التحرر الوطني هو نضال كبير من أجل هدف عسير. هذا هوالتناقض الرئيسي الذي ينبغي الانطلاق منه لبناء تحالفاتنا تمهيداً للانخراط في الصراع الدائر في العالم والمنطقة والسير على طريق التغييرالفعلي.
لقد انطلقت ورشة التحضير للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني المقررعقده في شهر تشرين الأول من هذا العام. إنه مؤتمر عادي وفقاً للنظام الداخلي للحزب ولكنه استثنائي إذا ما قيس بأهميته وبتوقّعات الشيوعيين من مقرّراته ومن ضرورة تحديد الوجهة التي تعيد للحزب فاعليته ودوره السياسي المؤثر في لبنان والمنطقة.
نعم التحديات كثيرة وكبيرة. التحدي الأكبر يكمُن في بلورة رؤية سياسية جامعة ينطلق منها الحزب لبناء برنامجه النضالي. وذلك ممكنٌ.
إن هذا الممكن يجب أن يبنى على تحديدنا لطبيعة الصراع في العالم بشكل عام ومنطقتنا بشكل خاص وأن يوضع في سياق تطور الرأسمالية وأزماتها وبروز قوى صاعدة يمكن البناء معها في المواجهة المفتوحة مع الإمبريالية.
إن الماركسية، كما أي نظرية علمية، محكومة بتحديد الزمان والمكان اللذين تطبق فيهما. والزمان لا يقاس بالطبع بالسنين بل بتمرحل تطور المجتمع. فلا قيمة للوقت دون الحركة. في أي مرحلة نحن من مراحل تتطورنا التاريخي؟ لا قيمة للصورة الجامدة لمجتمعنا التي تدفعنا بالتأكيد الى مواقف طوباوية جامدة مثل الموقف من الطائفية، الفساد وغيرهما، وهي مواقف أخلاقية لا يمكن أن تحدث تغييراً ولم تحدث يوماً. في أي جغرافيا يصبح النضال مجدياً وغيرعبثيٍ؟ هل التغيير ممكن في جغرافيا مقسمة من صنيعة الاستعمار؟ ما هي الاعتبارات التي يجب أن تحدّد هذه الجغرافيا؟
أسئلة كثيرة ومتشعّبة مطروحة على الشيوعيين في مؤتمرهم الثاني عشر. إلى العمل.

 

  • العدد رقم: 359
`


جواد الاحمر