أبا جميل.. لك كل الحب ولروحك السلام

الرفيق الراحل نعيم جميل الشيخ حسين "أبو جميل" من مواليد بلدة عيترون في العام 1931 نشأ وسط أسرة مكافحة تعمل في زراعة التبغ وقد عايش ظروفاً إجتماعية قاسية ومعاناة صعبة للغاية. انطلق ومذ ذاك الزمن المترهب سطوة الجلاد معلناً ثورته العارمة في وجه كلّ ما يمتّ للواقع المرير الذي يعيشه بأيّ صلةٍ فكانت أولى خطواته، وهو في مقتبل العمر، الالتحاق بصفوف الشيوعيين في منظمة عيترون العام 1947 حيث كانت باكورة مهامه التصدّي لموجات هجرة الصهيانة إلى فلسطين وقد خاض عدة مواجهات إلى جانب رفاق عدة جميعهم من بلدة عيترون، ومن بينهم الرفيق خليل قوصان، ورفيقان آخران لا يزالان على قيد الحياة.

هكذا تمرّس أبو جميل كافة المهام واغتنى بثقافة الثورة فتوقّدت شعلتها لتعمَّ أرجاءه؛ فأمست سلوكياته كناية عن ثورة مستدامة ومنازلة لا هوادة فيها ضدّ كلِّ أشكال الظلم والقمع والإستغلال ثائراً على السلطة وأدواتها، على الإقطاع وأزلامه، على الجهل والأمية والتخلُف، على البطالة والفقر والحرمان، على التردّد والإنهزام، ومضى رافعاً رايات العمال والفلاحين وصوته يصدح بصدى آهات الفقراء وعذابات المقهورين، فانخرط مجدّداً العام 1964 في مواجهات ضدّ إجراءات شركة الريجي التعسفية القاضية بإتلاف أجزاء من حقول المزارعين مستعينة بأجهزة السلطة القمعية بما فيها قوات من الجيش حيث إستطاع بمعية رفاق آخرين من ردع آليات الجيش ومنعها من تنفيذ مهامها وعودتها إلى بنت جبيل.

هكذا مضى أبو جميل... وخياره هو هو وبوصلته هي هي: ثبات على المبادئ والقيم وإنتصاره للقضايا المطلبية والمعيشية وإنحيازه الدائم للطبقة العاملة. وهكذا إستمر طوال حياته، عاش رفيقاً للشمس، وأنيساً لعتابا الفلاحين، ورحل عزيزاً شامخاً مرفوع الرأس، مؤدّياً كلّ ما أوكل إليه من مهام، متحدياً شتّى المصاعب، متحمّلاً كل أنواع الأذى، مجسّداً بذلك نموذجاً رائداً في النضال والكفاح والصمود؛ وقد تعرّض للتهجير بفعل التهديد الدائم من قبل العدو الصهيوني، ونزح عن بلدته عيترون العام 1969 جرّاء عمليات الكوماندوس التي استهدفته في عدة محاولات ليحط ترحاله في بلدة العباسية. ويعود إثرها وبعد مرور سنتين إلى بلدته عيترون لينضمّ إلى مجموعات الحرس الشعبي والتفرّغ لمقاتلة العدو الصهيوني أثناء غزواته، ليلتحق بعدها بصفوف القوات المشتركة بهدف مقاومة الإحتلال ومنعه من إقامة الشريط الحدودي. وتفرّغ لاحقاً ضمن فصائل الأمن الشعبي في العام 1976. وانتقل بعدها إلى مدينة صور إثر إجتياح العدو للجنوب العام 1978 حيث قرّر الإقامة في مدينة صور سيّما بعد إقدام العدو على هدم منزله في عيترون خلال اجتياح العام 1982، فاضطر لإيجاد السكن والعمل بشكل دائم في إحدى ضواحي مدينة صور.

ومنذ ذاك التاريخ بدأ أبو جميل مرحلة جديدة من النضال إذ تفرّغ مع أبنائه الستة للعمل في مشغل الحدادة نهاراً ومقاومة الإحتلال ليلاً إنطلاقاً من شوارع مدينة صور وصولاً إلى منطقة أبو الأسوَد. وقد تعرّض للاعتقال لأكثر من مرة ومكث لعدة أسابيع في إحدى معتقلات العدو آنذاك "مدرسة الشجرة" في صور قبيل تفجيرها بفترة وجيزة. هذا هو أبو جميل، وهكذا عرفناه رجل التحدّي في المهام الصعاب، وكما هو في النضال أيضاً، هو كذلك في مهنته وعمله الذي أتقنه على نحوٍ استطاع الإقدام على عدة إختراعات في تطوير آلات الحصاد الزراعية وصيانة الجرارت والمولدات، وهو الذي لم يدخل المدرسة إطلاقاً في حياته. كما أنه وقبيل رحيله كان بصدد إنجاز مرحلة متقدّمة في صناعة نموذج من الأفران الآلية.

تُرى كيف لنا أن ندرك عالمك الفسيح ومن أيّ الأبواب سنمضي إليك؟
أمِن عيترون التي عشقت ترابها وترعرعت بين حقولها وبيادرها المتخمة بالتعب والشقاء؟
أمِن الرجل العاشق للأرض وقد اعتاد الكدح والكفاح يزرع بذور الأمل في حقول الرجاء لتنمو عزة وكرامة فوق بيادر الوطن؟
أمِن مزارعي التبغ وعذاباتهم المتوارثة جيلاً بعد جيل وقد "شغَلْن"منه العقل والقلب؟
أمِن الحزب الذي التحق بصفوفه باكراً فتأصّلت لديه مرتكزات الوعي والفكر، وغدا وجهاً بارزاً من وجوه الحزب التاريخية؟

رحل أبو جميل... وها هي جموع المنتفضين من رفاق دربك تهتف للخبز والعلم والحرية، تهتف لخيار ديمقراطي خارج المنظومة الطائفية ينقل لبنان من مزارع الفساد إلى رحاب الوطن الذي يتساوى فيه جميع أبناؤه ولا يموتون فيه على أبواب المستشفيات، وطن نريده على صورتك يا أبا جميل يتّسع قلبه للجميع ولا يميّز بين لبناني وآخر، ولا منطقة وأخرى.
نعدك أيها الرفيق الراحل، أنّ انتفاضة 17 تشرين الأول ستستمر وتزداد صلابةً، ولن تمنعنا كلّ أشكال الترهيب والقمع من استكمال ما بدأناه، هذا هو خيارنا ولن نحيد عنه مهما كانت الأثمان والأيام كفيلة بإيضاح هذا الكلام، وكما حمينا الوطن سنحمي الإنتفاضة، وسنردّ الصاع صاعين.

نمْ قرير العين أبا جميل... وعهداً لك سنكمل الطريق.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 372
`


خليل ديب