القطاع الصحي والصمود بوجه التحديات

يرتكز النظام الصحي في لبنان، على عدد من المؤسسات الصحية الرسمية وشبه الرسمية كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتعاونية موظفي الدولة، والطبابة العسكرية، وصناديق التعاضد. وكذلك المؤسسات الضامنة الخاصة وشركات التأمين إضافةً إلى الجمعيات الأهلية. إنّ الأوضاع الصحية التي كانت متفاقمة في المناطق الشعبية، ازدادت حدّةً وتفاقماً خلال أزمة كورونا ومما زاد الطين بلّة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي شهدته البلاد في السنة الأخيرة.

مشاكل القطاع الصحي

يعاني القطاع الصحي في لبنان بعد خروجه من الحرب الأهلية من غياب السياسة الصحية الرسمية وانعدام المخططات الحكومية لتنظيم هذا القطاع. من أهم المشاكل التي يواجهها هذا القطاع:
1- يبلغ عدد المستشفيات الحكومية العامة في لبنان 29 مستشفى تضم 2,446 سريراً، وهذه المستشفيات تم تشييدها بأموال حكومية وتدار من خلال مجلس إدارة تعيّنه الحكومة ويفترض أن تؤمّن هذه المستشفيات التوازن المالي في الإيرادات والنفقات. ولكنها تعاني من عجز نتيجة المحاصصة السياسية والطائفية في التعيينات وهذا ساهم في اهتراء المؤسسة الصحية العامة وأدّى إلى إغلاق المزيد من المستشفيات الحكومية أو تحويلها إلى مستوصفات للمعاينة أو مراكز علاجية بدائية.
2- انعدام فعالية المكتب الوطني للدواء وعدم حماية وتطوير إنتاج الدواء الوطني الذي لا يغطي حالياً أكثر من 10% من حاجات الاستهلاك الدوائي في لبنان، وبالتالي فتح الباب أمام تجّار الدواء، بالتحديد العشوائي لسعر الأدوية المستوردة وإجبار وزارة الصحة والمواطنين على الالتزام بتعرفة الأمر الواقع. هذا والجدير ذكره أن كلفة الفاتورة الدوائية على المجتمع اللبناني تبلغ أكثر من مليار دولار.
3- فساد المؤسسات الضامنة بما يفسح المجال لشركات التأمين الخاص بالتحكّم بالتغطية والتعرفة وبالتالي ابتزاز المريض والطبيب على حدٍ سواء.
4- إنعدام وغياب الصحة البيئية، التي تعني جميع إجراءات السيطرة على البيئة، لتكون مناسبة لحياة الناس. وقد عرّفتها منظمة الصحة العالمية: "بأنها التوازن الذي يجب أن ينشأ بين الإنسان، ومحيطه، بحيث ترعى صحته من جميع، النواحي، الجسدية، النفسية، والاجتماعية. كذلك يمكن القول بأنها تقارب إجمالي الأشياء التي تحيط بالإنسان، فتتضمّن الماء، والهواء والتربة، والمعادن والمناخ، وتؤثّر على وجود الكائنات وهي تمثّل أيضاً التعقيد، الذي يؤثّر على أنفسهم. وبالتالي يتلاعب في صحته، ويساهم في رفع فاتورته الصحية.
5- إنعدام الرقابة على ممارسة مهنة الطب وغياب التنظيم المهني بين الطبيب والصيدلي حيث نحن بحاجة لإعادة تأهيل الجسم الطبي وتنظيم العلاقة مع نقابات الأطباء والصيدلة والعلاج الفيزيائي وغيرها.
6- تخلّف الادارة الصحية وانعدام التخطيط وغياب أيّة سياسة وطنية متكاملة.
في الواقع، قُدّر عدد المستشفيات الخاصة العاملة في لبنان حوالي 149 مستشفى خاص تقدّم معظمها خدمات طبية جيدة ويحصل بعضها على جوائز عالمية من حيث الجودة قبل الأزمة الاقتصادية ووباء كورونا.
أمام هذه المشاكل المعقّدة والعميقة، أتت الأزمة الاقتصادية وضعف تركيبة النظام الصحي والأطر الرقابية وإدارة القطاع عموماً، وتترجم في مستويات إنفاق عالية حيث نجد أن حوالي 70% من الإنفاق على الاستشفاء يذهب للقطاع الخاص مقابل 30% للقطاع العام، بحيث أصبحت وزارة الصحة المموّل الرئيسي للقطاع الخاص وتلاها تفشي وباء جائحة كورونا لتزيد من مخاطر الانهيار الشامل للقطاع الصحي. فمن ناحية الانهيار الاقتصادي وانهيار سعر صرف الليرة في مقابل الدولار بدأ الحديث عن توجه أكثرية المستشفيات الخاصة إلى وضع تعريفة جديدة لخدماتها على أساس سعر صرف للدولار مقابل الليرة اللبنانية، متوسط بين السعر الرسمي والسوق السوداء، أي 3950. وارتفاع الكلفة ونفاد المستلزمات الطبية يجعل المواطنين تتحمّل لفروقات الجهات الضامنة من الفاتورة الاستشفائية وذلك في وقت يسير فيه القطاع الصحي بأكمله إلى كارثة حقيقية، متمثلة بتوجّه المصرف المركزي إلى رفع الدعم عن الدواء الذي يؤمّن دولار استيراده على أساس سعر الصرف الرسمي حسب كلام حاكمه.

هجرة العاملين في الصحة...

إزاء الوضع الاقتصادي المتردّي وضحالة الأجور وتدنّي مستواها، عدا عن حجز المصارف لمدخرّات المواطنين، لجأ حوالي 500 طبيب الى مغادرة لبنان بحثاً عن العيش الكريم في الخارج لأنهم لم يجدوا أي أفق في وطنهم. ويتهيأ حوالي 5000 أيضاً للسفر أيضاً علماً أن المستشفيات في الخارج تتمنى الحصول على خدمات مثل هؤلاء الأطباء، وفرص العمل لهم سهلة للغاية لما يتمتعون به من خبرة وكفاءة، وبهذه الطريقة يخسرهم لبنان في أصعب مرحلة صحيّة يمرّ بها. كما أنّ نسبة هجرة العاملين في قطاع التمريض بلغت مستويات غير مسبوقة نتيجة الرواتب المنخفضة أو عدم تقاضي الرواتب، والإجازات غير المدفوعة إضافة لظروف العمل غير الآمنة.

فقدان وتهريب الدواء

ومن آثار الانهيار الاقتصادي ملف الدواء حيث اتّسعت هذه الأزمة في لبنان مهدّدة حياة المرضى، ولا سيّما الذين يعانون من أمراض مزمنة، وذلك بسبب تدهور حاله بعضهم الصحيّة إثر اضطرارهم إلى التوقّف عن تناول عدد من الأدوية المخصّصة لهم لأنّها مفقودة من الصيدليات ولم يجدوا سبيلاً لتأمينها. علماً أنّ لبنان لا يستورد أدوية«جنريك» بشكل كاف، واعتماد «الجنريك» في السياسة الدوائية يحتاج إلى سنوات، بدءاً من تحديد بلد الاستيراد والشركات ودراسة الجدوى وتسجيل الدواء، وصولاً إلى تسويقه. وأسباب انقطاع الدواء، بالإضافة إلى تأخّر موافقة المصرف المركزي على الاعتمادات، ومشكلة شحّ الدولار، المضاربات بين الصيدليات وإقبال المواطنين في الأشهر الماضية على تخزين الدواء، ومنها الأدوية المفقودة حالياً، خوفاً من رفع الدعم عنها، وبالتالي ارتفاع أسعارها، فضلاً عن التهريب الذي ينشط كون سعر الدواء في لبنان الذي يباع بالليرة اللبنانية أصبح الأرخص في المنطقة، بعدما فقدت الليرة أكثر من 70 في المائة من قيمتها مقابل الدولار. عدا عن ارتهان الوزارة لكارتيل استيراد الدواء وتحكّم نقابة مستوردي الأدوية بالكثير من إجراءات الوزارة وكلّ هذا يجري وفق غطاء سياسي مبرمج. وكان لبنان أحبط في الفترة الأخيرة أكثر من عملية تهريب دواء إلى الخارج. كما كانت وزارة الصحة أقفلت عدداً من الصيدليات، ولاحقت مستودعات تقوم بتخزين الدواء بغية تهريبه أو بيعه بأثمان مضاعفة.

مواجهة كورونا...

حدّدت منظمة الصحة العالمية أربع مراحل لانتشار فيروس كورونا المستجد؛ حيث يكون مصدر الإصابة في المرحلة الأولى قادماً من خارج البلاد، كما كان الوضع في أولى الحالات عندنا. بينما تتمثّل المرحلة الثانية في الانتشار المحلي للفيروس، وتعود الإصابة فيها إلى اتصال الحالة الجديدة المصابة بشخص مصاب بالفيروس أو قادمة من بلد منتشرة فيه العدوى، وتم تحديد مصدر العدوى عن طريق إجراءات الرصد والتقصّي. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة الانتشار المجتمعي للفيروس، والتي تكون الحالة المصابة بالفيروس غير متصلة بأي شخص مصاب مسجّل في قواعد بيانات الترصّد والتقصّي أو بأيّ شخص سافر إلى أيٍّ من البلدان المتأثرة بالفيروس، وتعجز إجراءات الرصد والتقصّي عن الوصول لسبب الإصابة. وتعد المرحلة الرابعة والأخيرة هي الأسوأ؛ لأنها تمثل مرحلة الانتشار الوبائي، حيث يصبح انتقال الفيروس على نطاق شديد الاتساع. ومن ناحية الوباء، فأعداد كورونا المرتفعة يومياً، قد تتخطّى القدرة الاستيعابية للمستشفيات حيث أصبح 90 في المئة من الأسرّة مشغولاً. وخصّصت المستشفيات الخاصة 400 سريراً لمرضى كورونا تتوزّع على 300 غرفة معزولة و100 غرفة عناية فائقة، وعلى الرغم من بدء بعض المستشفيات بزيادة عدد الأسرّة إلّا أن المنحى الحالي للإصابات لا يمكن احتواءه. ومع ذلك هناك بعض المؤشرات التي قد تشير إلى إننا على أعتاب مرحلة الانتشار المجتمعي. يخوض العاملون في الخطوط الأمامية في العيادات والمستشفيات في لبنان وحول العالم معركة شرسة ضدّ فيروس كورونا المستجد، لكن نجاح الفرق الطبية في القضاء على الفيروس لا يزال مرهوناً بكفاءة نظام الرعاية الصحية في كلّ دولة من الدول. ليست مواجهة وباء الكورونا مسألة توفُّر أدوية بعينها ولا مستلزمات طبية ومستشفيات للحجر الصحي ووقاية شخصية فقط بل يسبق ذلك الكثير من منظومة لرعاية صحية عامة ووقاية مجتمعية لم تكن يوماً حاضرة في بال سلطة الأقلية الحاكمة. نظام صحي عماده العمل على المحددات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والجندرية والثقافية والتجارية للصحة بشمولية وتكامل، وليس نظاماً يهيمن عليه النمط العلاجي للأمراض الذي يمسك بزمامه القطاع الخاص. إذاً، نحن بحاجة الى إعلان حالة الطوارئ الصحية، بما يعني ذلك من وضع مواجهة الوباء كأولوية لعمل الحكومة وتوفير كلّ الموارد المالية والبشرية اللازمة لخطة مواجهة شاملة، تبدأ بوضع اليد على كلّ مستشفى خاص تقفل أبوابها في هذه الأوقات العصيبة وقد جنت أرباحاً طائلة من حساب وزارة الصحة على مدى عشرات السنين وإلحاقها بالخطة الصحية.

وكلمة أخيرة بخصوص لقاح كورونا، كلّ الدراسات العلميّة والمجلاّت الطبّية العالميّة تؤكد أنّ ليس ثمة إمكانية للوصول إلى لقاح فعّال قبل 6 أشهر، ولبنان يحتاج بين 6 أشهر وسنة للحصول عليه في حال أصبح متوافراً في الخارج، وحتى ذلك الحين يبقى الالتزام بالتدابير والإرشادات الوقائيّة وعدم الاستهتار هو السبيل الأفضل في مواجهة الفيروس، وبهذه الطريقة يمكننا تفادي الوصول الى النموذج الإيطالي.

(*) مسؤول قطاع الصحة في الحزب الشيوعي اللبناني وعضو في اللجنة المركزية