سقط خوفنا، لكن مَن يٌسقط خوف الآخرين ..؟

يتحرّرُ الإنسان وينطلق للعالم عندما يُدرك أنّ المفاهيم السّابقة التي حدّدت وجوده ووعيه وكيانه لا تتناسبُ مع ذاته وباطنه. لكنّ عمليّة إكتشاف الذات لن تكون في المحيط الذي دمّرهُ واستغلّ وجوده لغايات إقتصاديّة، إجتماعيّة، سياسيّة وماديّة.

عندما نرى العالم بعينٍ مجرّدة من أيّ ميول أو فكر معيّن نبصرُ نور الحقيقة الذي سيضيء خفايا نفوسنا وأرواحنا.

كلّ شيء هنا نابع من العبثيّة والعدم، وهذا ما يجعلُ درب إكتشاف الذات والباطن والنضال من أجل أنفسنا والإنسان أمراً صعباً.. أضعافاً وأضعاف.

إنّ رحلة البحث عن حقيقة باطننا تتطلّب الكثير من الجرأة والتجرّد من أفكار المحيط وتأثيراته. بحيث يُنظر لكلّ فرد على أنّه كائن مختلف تمام الإختلاف عن الفرد الآخر وهذا ما ترفضه الجماعات التي تتّخذ من التشابه والتطابق أساساً لوحدتها وقوّتها.

الفرد في الجماعة رقم وأداة لصمودها وبقائها، يُسجّلُ في لوائحها وسجلّاتها على أنّه ال "هذا" أو ال "هذه"، فيَرسمُ من أفكار مجموعته بشكلّ غير واعٍ "حدوداً ما" لحريّته ونضجه.

وهنا تُقتل إمكانيّة تغيير المجتمعات وتطويرها عن طريق إعدام الوعي الفردي وإلغاء أهميّة وجود الفرد ككائن وإنسان له مشاعر تُكبَت على يد جماعته غير مدركٍ أنّ الأمان النفسي الذي تُشعرُه به عبر إعداد الوهم وخلق أحلام زائفة في ذهنه سيكون دمار روحه وإنهيار كيانه الخاص.

نحن بحاجة ماسّة للتواصل البشري عند كلّ صباح، ولإقامة روابط عائليّة وصداقة متماسكة مع أناسٍ يُشعروننا بالأمان ويغمروننا بالعاطفة والحنان، إنّها غريزة الإنسان التي لا مفّر منها. وهنا تَكمُن قوّة الجماعة، إذ أنّها إطار يوفّر كلّاً من الأمان والراحة النفسيّة، وفيه أناس يتشاركون العاطفة والحنان والإهتمام، وهذا ما يجعل الفرد متمسّكاً بجماعته مراغمةً عن كلّ عيوبها وسلبها للحريّة الفكريّة والمعنويّة.

ما العمل إذاً لإنقاذ الروح الفرديّة من بين كُتل اللّحم المتحرّكة ..؟

لا بدّ من كسر القيود وإزالة كلّ العوائق التي حجبت النّور عن الأعين لسنوات طويلة وراكمت فوقها غباراً لا يمسحه الزمن، بحيث يخلع الفرد ثوب جماعته ليحيك ثوباً جديداً يكون أساس إشراقه في المستقبل وإعلاناً لولادته الوجوديّة: "أنا جوهر وجودي، أشتعل لأنير طريقي وطريق الإنسان التائه." وتكون مرحلة إنشقاق الفرد عن المجموعة، وتحديد منهجيّةٍ واضحة، وعقلانيّةٍ لمسيرته الجديدة في الحياة الأصعب على الإطلاق، بحيث تتخلّلها صراعات وجوديّة - نفسيّة نابعة من داخل الروح الفرديّة، "من أنا؟ لماذا أعيش؟ ما الحياة؟ وما الوجود؟"، أسئلة لا متناهيّة تختلف أجوبتها إختلافاً تامّاً بين الفرد والآخر، لأنّها نابعة من حقيقة باطننا وجوهرنا الحيّ النقي الذي يستحيل على أيّ قوى أو جماعة أو فريق إلغائه وتشويهه. إنّه جوهر كلّ إنسان والحقيقة التي يصعب تحريفها، متى يكتشف الفرد باطنه ويدرك خفايا نفسه متقبّلاً الجانبين الإيجابي والسلبي من حقيقة ال "أنا"، يكون بالمستطاع الإنطلاق نحو مستقبل يتماشى مع مبادئه وأفكاره المنبثقة من داخله ومن قناعاته هو وحده.

وهكذا ينطلق الفرد إلى العالم والحياة ويواجه عبثيّتها وظلمها بإرادة صلبة وتمسّك شرس بالبقاء، ويحاول خلال دروب الحياة بطولها وعرضها خلق مساحة آمنة له، لأحلامه ولحقيقة باطنه، الذي، ناضل لإكتشافها وتحقيقها. ويكون بذلك أسقط الخوف، وأزال الأسلاك التي قيّدت حرّيته وحالت دون تحقيق ذاته.

تسقط الدوائر والجماعات الحاضنة، يسقط أمانها النفسي المزيّف ومشاريع الأوهام الكاذبة، تسقط منهجيّة كبت المشاعر وتقييد الأفكار وكمّ الأفواه، تسقط اللاانسانية والهمجيّة.

سقط خوفنا، سنمضي بحريّة على درب الحياة، سنعيش ونحيا بالرغم عنهم وعن قيودهم وقوانينهم.

نحن لا نخاف الحريّة، بل نعيش لأجلها.

فليسقط خوف الآخرين.