صفعة على الوجه *

حين يعلم المرء بوقوع إساءات بليغة لحقوق الإنسان في بلد آخر، يقف أمام احتمالين لا ثالث لهما. خياره الأول هو إدانة الفاعل. والخيار الثاني يتمثل في أن يشهرَ سخطه على الضحايا مُشكّكاً بمشروعية مقاومتهم. وقد اختار مجلس النواب الاتحادي الألماني "البوندستاغ" في السابع عشر من شهر أيار/ مايو وبوضوح الخيار الثاني عندما أدانت أغلبية أعضائه المنظمة المدنية الفسلطينية "BDS" باللاسامية.
أقدم فلسطينيّون على تأسيس حركة المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات "BDS" تحت وطأة القمع الشنيع والإذلال المتواصل على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية. والعديد من اليهود لبوّا هذه الدعوة بالانضمام إلى صفوف "حركة المقاطعة" بدافع من ضمائرهم الحية.

وعلى الرغم من السلمية المطلقة لهذه الحركة وعدم جواز مقارنتها مطلقاً بالتجاوزات والاعتداءات العنيفة للنازيين (أيها الألمان، لا تشتروا من اليهود)، ركعت كافة الأحزاب الألمانية ذليلةً أمام مسعى حكومة الاحتلال والاضطهاد لإسكات أي نمط من الانتقاد لسلوكها. وعلى ما يبدو كان الدافعُ لهذا الخضوع الخوفَ من الاتهام بالعداء للسامية.
705 نائب هو إجمالي تعداد أعضاء مجلس النواب الاتحادي الألماني "البوندستاغ"، ويضمّ 222 امرأة. وصوّتت يوم السابع عشر من أيار/ مايو أغلبية تعداد المجلس (500 من النواب) عبر إعلان كل منهم باسمه، ضد الحركة الأممية (مقاطعة، سحب الاستثمارات، فرض العقوبات "BDS")، في حين آثر 25% من النواب عدم المشاركة في التصويت.
وقد تأسست هذه الحركة "BDS" عام 2005 بمبادرة من المجتمع المدني الفلسطيني لهدف إطْلاع العالم على الاضطهاد الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وشكّلت صرخة لطلب المساعدة من العالم والتضامن وأتى التجاوب من كل بقاع الأرض.
شكّلت حركة المقاطعة المثال والأمل لنظام الفصل العنصري الأبارتهايد في جنوب أفريقيا لما أنجزته على امتداد السبعينيّات من القرن المنصرم. ففي ظل شعار "الفصل العنصري قاتل... قاطعوا جنوب أفريقيا" وتحوّلِها إلى حركة عالمية متنامية الضغط، أجبرت دولة الفصل العنصرية الأقلية البيضاء على الإصلاحات بإعطاء الأغلبية السوداء من سكان البلاد الأصليين حقوقهم الكاملة.
ويمكن الاطّلاع على المطالب الواضحة لحملة الـ"BDS" والبعيدة عن أي التباس على صفحتها الإلكترونية : ممثلو 170 منظمة من المجتمع المدني يدعون المنظمات الدولية و"كل المناضلين من أجل العدالة في كافة أرجاء العالم لتحقيق أوسع مقاطعة لإسرائيل وسحب الاستثمارات منها كما حصل ضد جنوب أفريقيا في ظل سيادة نظام الفصل العنصري". وناشدوا لـ "ممارسة الضغوط اللازمة على حكوماتكم لغرض المقاطعة وحظر التعامل مع إسرائيل". كما دعوا "كافة اليهود اصحاب الضمائر الحية لتلبية نداءنا هذا من أجل تحقيق العدالة وسيادة السلام الحقيقي. ويجب ضمان استمرار هذه العقوبات اللاعنفية إلى أن تستجيب إسرائيل لاحترام حقوق الفلسطينيات والفلسطينيين في تقرير مصيرهم بذاتهم وكل ما كفله القانون الدولي لهم:
1- إنهاء الاحتلال والاستعمار لكل الأراضي العربية وإزالة جدار الفصل العنصري.
2- الحق الأساسي لكل المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل بالمساواة المطلقة.
3- حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم وممتلكاتهم عملاً بنص قرار الأمم رقم 194 على احترامها وضمانتها.

ضد المجتمع المدني
أعلنت أغلبية أعضاء مجلس النواب الألماني الاتحادي "البوندستاغ" إدانتها لهذه الحملة المدنية ووصمتها باللاسامية حيث توافقت الأحزاب من اليسار إلى أقصى اليمين. وأطلق حزب الـ AFD (أقصى اليمين) مقترحه بـ"إدانة حركة الـ"BDS" حماية وجود إسرائيل"، وطالب بحظر الـ "BDS" على امتداد الأراضي الألمانية . في حين تقدم حزب "اليسار" بمشروع قرار "رفض حركة الـ "BDS"ودعم الحل السلمي في الشرق الأوسط".
تقدمت الأحزاب الآتية بمقترحها المشترك تحت عنوان " لنواجه بحسم حركة الـ "BDS" ونكافح معاداة السامية": الحزب الاجتماعي المسيحي والحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاجتماعي الديمقراطي وحزب الليبراليين الأحرار وحزب الخضر. وجرى تبنّي هذا المقترح بالأغلبية المذكورة أعلاه. وصاغت "إدارة مجلس النواب الاتحادي النقاط الرئيسية من هذا القرار تحت عنوان " الوطن والأوضاع الداخلية / مقترح 16.05.2019 على الشكل التالي : " يلحظ مقترح مجموعة الأحزاب المذكورة أعلاه بأن حملة الـ"BDS" تدعو لمقاطعة إسرائيل والبضائع كما الخدمات الإسرائيلية وكذلك الفنانين والعلماء والرياضيين والإسرائيليين أيضاً. وتؤدي بجذريتها إلى تحقير المواطنين الإسرائيليين كما المواطنين من حملة المعتقد اليهودي عامة. إن أنماط وأساليب التعليل التي تستعملها حملة الـ BDS هي معادية للسامية. إن دعوات الحملة لمقاطعة الفنانين الإسرائيليين والملصقات على البضائع الإسرائيلية الداعية إلى مقاطعة شرائها تذكر أيضاً بالحقبة الأكثر بشاعة في التاريخ الألماني. يدّعون استهداف سياسة دولة إسرائيل بالنقد والضغط، وفي الحقيقة تنضح هذه الحملة بالتعبير عن الحقد على مجموع اليهود وديانتهم ولذلك وجب على مجلس النواب الاتحادي الألماني أن يقرر حجب الدعم المالي أيضاً عن أي مشاريع تدعو لمقاطعة إسرائيل أو توفر الدعم العملي لحملة الـ"BDS". كما على المجلس أيضاً أن لا يسمح بوضع القاعات والمؤسسات الخاضعة للإدارة الاتحادية في تصرف منظمات تروج للعداء للسامية أو تشكك بحق إسرائيل في الوجود. كما وجب توجيه النداء والتوصية لكل الولايات والمدن والمحليات ولكل العاملين في الحقل العام أيضاً كي يلتزموا بهذا النهج أيضاً".
هذا ما أقره مجلس النواب الألماي الاتحادي البوندستاغ. وحظي فوراً بمديح وإطراء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو : "أهنىء مجلس النواب الاتحادي الألماني لقراره المهم بإدانة حركة المقاطعة BDS بوصفها حركة معادية للسامية". هذا ما كتبه "بيبي" في تويتر. وثمّن على وجه الخصوص "دعوة مجلس النواب الاتحادي لعدم تمويل أي من المنظمات التي تنشط ضد وجود إسرائيل"، معبّراً عن رجائه في أن تتبع هذا القرار خطواتٌ عملية لوضعه موضع التنفيذ آملاً "أن تحذو دولاً أخرى حذو هذا التوجه".
إن مجلس النواب الألماني الاتحادي هو الوحيد في العالم بأسره الذي أدان بهذه الطريقة حركة الـBDS. وسبق للكنيست الإسرائيلي في عام 2011 أن أقر قانوناً ضد المقاطعة.
صفعة على الوجه
كان هذا القرار بمثابة صفعة على الوجه بالنسبة للفلسطينيين. السفيرة الفلسطينية في برلين الدكتورة خلود دعيبس توجهت قبيل انعقاد جلسة "البونسدتاغ الألماني" المذكورة آنفاً برسالة مفتوحة إلى النواب تحذرهم من عواقب قرار يتخذ ضد الـ BDS . وكذلك من الاتجاه لتوظيف تهمة "معاداة السامية" وبشكل تصاعدي لهدف عزل كل النقاد والمحتجين على سياسة الاحتلال الإسرائيلي وإخراسهم. ومما يثير القلق العميق أن تحدث هذه التطورات في بلد الحريات والديمقراطية الذي يروج على الصعيد العالمي وبشكل مكثف لصالح حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. إن التخطيط للإدانة لا يبعد عن حالة التجريم.
كما وجهت مجموعة من العلماء اليهود والإسرائيليين رسالة مفتوحة إلى أعضاء "البوندستاغ" ينوّهون فيها إلى قرار صادر عن الاتحاد الأوروبي يشير إلى أن التصريحات والاجراءات ذات العلاقة بحركة الـ BDS هي كلها مشمولة بحرية الرأي والتنظيم التي ينص عليها ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي.
وعلى مايبدو فإن أعضاء "البوندستاغ" الألماني لم يفهموا معاني هذه النصوص. فالقانون الدولي وحقوق الإنسان وحقوق الفلسطينيين تراجعت إلى مجرد لغط كلام. كما لم يلمس أي تدخل ومنذ زمن بعيد من أجل دعم حراك الفلسطينيين من أجل حقوقهم المشروعة بل اكتفوا بالكلام ولا شيء سوى الكلام وهم شهود على خرق إسرائيل للقانون الدولي ولحقوق الإنسان. وبالمقابل يستمر إمداد الجيش الإسرائيلي بالسلاح وتنظم الاحتفالات للمشاريع المشتركة ويرفع حق إسرائيل بالوجود إلى مصاف مفهوم سيادة الدولة الالمانية. وتجري التدريبات العسكرية المشتركة للجنود الألمان والإسرائيليين تحت شعار "تدريب من أجل النصر" . ولا يُكتفى بذلك بل تُبذل كل الجهود في الغرب من أجل أن تبقى إسرائيل بمنأى عن أي عقاب. والسبب لذلك كما يدّعي أحد النواب أثناء مداخلته في جلسة البوندستاغ هو أن "إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي ترفع احترام الديمقراطية إلى أعلى مصاف". فهل هذا صحيح؟ وهل يمكن لدولة ديمقراطية وعلى امتداد سبعين سنة أن تضرب بعرض الحائط مقررات الأمم المتحدة فتبني المستعمرات على أراضٍ يملكها فلسطينيون. الأمر الذي يحرّمه القانون الدولي؟ وهل يمكن لدولة ديمقراطية إقامة مواقع عسركية على أراضٍ مثل هضبة الجولان وهي ملك لسوريا وهو الأمر الذي يحرمه القانون الدولي؟ وأيّ ديمقراطية هذه التي تبيح حبس مليوني إنسان في قطاع غزة في أشبه ما يكون بسجنٍ كبير تحول بينهم وبين مصادر تأمين الحياة من المياه إلى الكهرباء والرعاية الصحية والعمل على تطوير قاعدة اقتصادية لحياة كريمة؟ ما هي هذه الديمقراطية التي ترفض ومنذ عشرات السنين الالتزام بتنفيذ مبدأ "الأرض مقابل السلام" وتنسحب على أساسه من الأراضي العربية المحتلة منذ عشرات السنين (مرتفعات الجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية)، مقابل إقامة السلام مع دول الجوار؟
وأيّ نوع من الديمقراطية يسود تفكير وسلوك حكومة تخفي مخزون دولتها من الأسلحة الذرية عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وترفض مطلقاً التوقيع على معاهدات دولية بهذا الشأن؟ وكم هي ديمقراطية تلك الحكومة التي تسوق أمامها حلفاءَها إلى خوض حربٍ ضد إيران كما يشهد العالم بأسره في الأوقات الراهنة؟
من القمع إلى خرق القانون الدولي وإثارة الحروب. كل ذلك من أجل ضمان أمن الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي ترفع راية الديمقراطية عالياً؟
أشارت صحيفة "فرانكفورتر ألجماينة" في تعليقٍ لها على قرار "البوندستاغ" بصدد حملة الـ BDS، إلى أن "هذا القرار كان أكثر من ضروري، من أجل تسجيل موقف واضح ضد اللاسامية". وحملة الـ BDS تشكّل رأس حربة ما يُسمّى بتوجيه النقد لإسرائيل. مناصروها يدّعون الدفاع عن حقوق الفلسطينيين ويهدفون في الواقع لإزالة إسرائيل، والتي تصفها الـ BDS بنظام الفصل العنصري الأبهارتهايد. وحتى يتحقّق ذلك لا بدّ أوّلاً من عزل إسرائيل سياسيّاً واقتصاديّاً ثقافيّاً. ولا يُخفى في هذه الجوقة وحدة النغم مع دعوة النازيين لمقاطعة اليهود في عام 1933 (لا تشتروا من اليهود).
إن مثل هكذا عرض لحملة الـ BDS ولأهدافها المُعلَنة أمر غير جائز، ومقارنتها بسياسة النظام النازي حيال اليهود منذ عام 1933. وبهذا الصدد كتب البروفيسور المتقاعد "موشيه تسوكرمان"، أستاذ التاريخ والفلسفة في جامعة تل أبيب يقول: "إن حملة الـBDS ليست موجهة ضد اليهود بل ضد إسرائيل. إسرائيل التي تطبق منذ خمسين عاماً نظام احتلال قاسٍ ضد الفلسطينيين: يكتم الأفواه ويثير وينشر الاستفزاز ويصادر الحقوق ويعمم الاستعباد. إن سلوك إسرائيل يتناقض مع القانون الدولي، وهو الأمر الذي برز واضحاً أثناء الانتخابات البرلمانية العامة الأخيرة للكنيست ومن خلال تصويت الناخبين وحقيقة موقفهم من الصراع في الشرق الأوسط" .
"باربارة أونموسيغ" عضو الهيئة الإدارية العليا لمؤسسة "هاينريش بول" التابعة للخضر، عبّرت عن قلقها من "الإدانة العامة غير الدقيقة لشركائنا الفلسطينيين الذين يوصَمون الآن باللاسامية. إن قرار "البوندستاغ" يعزّز من مجموعات دعم "إسرائيل" والتي ستقوم بكل ما باستطاعتها من أجل المزيد من تعقيد الحياة. الأمر الذي يفضي إلى تضييق هامش الحركة في الحوار مع مجموعات المجتمع المدني في إسرائيل وفلسطين والأردن. ويؤثر قرار "البوندستاغ" كثيراً في هذا المنحى. وكما يبدو للأسف لم يخطر في تفكير بعض النواب ما ينجم عن هكذا قرار من تفاعلات في الشرق الأدنى.
يُرجى من النواب الذين يرفعون راية الدفاع عن إسرائيل عبر إدانة الحملة الفلسطينية اللاعنفية من أجل حقوقها المشروعة، أن يسافروا إلى الأراضي المحتلة في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. وهناك سوف يتعلمون ماذا يعني أن تكون فلسطينياً تعيش لاجئاً في أرضك وتغمرك شتائم المستوطنين، ممنوعاً عليك حرية الحركة وتعيش عاطلاً عن العمل...".
ما يزيد عن ثلثي المليونين من الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة هم من اللاجئين في أرضهم. لاجئون داخل وطنهم. يتظاهر عشرات الآلاف منهم كل يوم جمعة ومنذ الثلاثين من آذار عام 2018 من أجل مستقبلهم. ويطلقون عليها شعار "مسيرات العودة الكبرى". وتجول على امتداد الشريط العازل الذي أقامته إسرائيل للحيلولة دون وصولهم إلى الأجزاء الأخرى من الأراضي الفلسطينية أو الإسرائيلية. تطالب جماهير المتظاهرين بإنهاء الحصار القائم منذ 11 سنة وكذلك بحقهم في العودة إلى مسقط رأسهم أو وطنهم الذي اقتلعوا وهُجّروا منه. ويجيب الجنود الإسرائيليون على الطرف الآخر من الشريط العازل بعنف مفرط.
منظمة الأمم المتحدة للتنسيق في الطواريء (OCHA) أصدرت ونشرت في الثاني والعشرين من شهر آذار/ مارس لعام 2019 الأرقام التالية: 195 فلسطينياً قُتلوا ومن بينهم 41 طفلاً. وجُرح 29000 فلسطينياً، من بينهم 7000 نتجت جروحهم عن الذخيرة الحيّة المُستخدَمة من قبل الجنود الإسرائيليين. وتشير إحصاءات منظمة العفو الدولية للجرحى إلى ما يلي: 1849 من الأطفال، و424 من النساء و115 من العاملين في الإسعاف و115 من الصحافيين. وجرح جندي إسرائيلي واحد كما قتل جندي إسرئيلي آخر.
ونظراً لهذه الأرقام: هل تشكل إدانة حملة الـ BDS فعلاً التزاماً بمنطق السيادة؟ من وماذا يثير كل هذا الهلع لدى نواب البوندستاغ الألماني فيصمتون عن قمع دولة إسرائيل للفلسطينيين؟ هل يتجنبون انتقاد إسرائيل خشية اتهامهم باللاسامية؟

* نُشِر هذا النص في الموقع الالكتروني الألماني روبيكون "Rubikon" بتاريخ 24 أيار 2019، وترجمه إلى العربية الدكتور عصام حداد.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 359
`


كارين لويكيفيلد