أيها السادة، الصفقة سوف تكون مربحة

شكل انهيار الدولة العثمانية ودخول المنطقة في مرحلة الاستعمار المباشر مفترقاً هاماً وخطيراً تحكّم في حياة شعوبها طيلة المئة عام الماضية ولا يزال يطبع حاضرها ومستقبلها.
عانت شعوب المنطقة، دون شك، من الحكم العثماني ظلماً وقهراً ومجاعة فكانت طواقة في أوائل القرن العشرين إلى التخلص منه واستعادة الحكم (الخلافة) إلى أصوله العربية. استغلت القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا ذلك من اجل الدفع في اتجاه انهيار الدولة ورسم خريطة جديدة للمنطقة بما يتلاءم مع مصالحها. حرضت، ضمن خطتها، على قيام الثورة العربية بقيادة الشريف حسين تحت شعار استرداد الخلافة.

تُختصر الاستراتيجية الاستعمارية في التعامل مع المنطقة في ذلك الوقت في الرسالتين الآتيتين:

الأولى من المندوب السامي البريطاني في مصر، مكماهون، مرسلة إلى وزارة خارجيته عام 1916: "إن لدينا فرصة فريدة قد لا تسنح مرة أخرى في أن نؤمّن بواسطة الشريف نفوذاً مهمّاً على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية، وربما نوعاً من السيطرة عليهما".

والثانية من الجنرال جيلبرت كلايتن مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة عام 1916: "إن هدف الشريف هو تأسيس خلافة لنفسه. نشاطه يبدو مفيداً لنا لأنه يتماشى مع أهدافنا الآنية؛ وهي تفتيت الكتلة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها. إن العرب هم أقل استقراراً من الأتراك؛ وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية؛ مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض؛ غير قادرة على التماسك. وإذا تمكنا فقط من أن ندبّر جعل هذا التغيير السياسي عنيفاً؛ فسنكون قد ألغينا خطر الإسلام بجعله منقسماً على نفسه".
إنها استراتيجية مبنية على تفتيت المنطقة وقيام كيانات متعثرة ومتناحرة غير قادرة على النهوض والتطور.
في ذلك الوقت، لم نكن نعلم بوجود النفط في منطقتنا ولكن القوى الاستعمارية كانت تعلم بوجوده. لذلك أتت الهندسة الكولونيالية لكيانات و"دول" المنطقة وفقاً لهذا المعطى الجديد وانطلاقاً من مصالحها في الاستئثار به. رُسمت خريطة المنطقة بناءً على مقتضيات ومصالح التراكم الرأسمالي وعلى أهمية هذه الموارد الطبيعية الحديثة.
شكلت «سايكس - بيكو» كيانات المنطقة السياسية انطلاقاً من اعتبارين. الاعتبار الأول مرتبط بضرورة تفكيك الدولة من أجل منع شعوبها من الاستمرار في مشروعهم الجامع الذي يخدم تطورهم ومكانتهم مما يشكل تهديداً لمصالح اطراف «سايكس - بيكو» الامبريالية والاعتبار الثاني مرتبط بشكل اساسي بالمصالح النفطية الطارئة ونهبها. بذلك أتت خطط التفتيت والتجزئة وفقاً لمقتضيات سياسات الاستتباع والهيمنة الامبريالية من جهة وتكريساً لآليات النهب لثروات المنطقة الطبيعية من جهة أخرى.

بعد مئة عام لا زلنا نعيش داخل الخطوط التي رسمها لنا الاستعمار رغم صعوبة العيش وأحياناً انعدامه ورغم أزماتنا المستمرة. أليس ذلك عبثياً؟ بالطبع تابعت القوى الامبريالية، القديمة والحديثة، تنفيذ استراتيجيات ومخططات التفتيت والانفصال تارةً بالحديد والنار والقتل والتهجير وطوراً بالعقوبات الاقتصادية والحصار والتجويع. زرعت كياناً غاصباً في وسط المنطقة يمنع وحدتها وتقدمها، ما شكّل قاعدةً أساسية متقدمة لها ولمشاريعها. وضعت اليد على ثروات المنطقة ونهبتها واستعملت جزءاً منها في التآمر على شعوبنا. وشكل ذلك، دون شك، السند الأساسي لاستمرارية هذا البنيان الاستعماري؛ إنما هل هنالك عناصر موضوعية كامنة، داخل هذه الهندسة وهيكليتها، تؤمن استمرارها وديمومتها؟

رسمت «سايكس - بيكو» بذكاء خريطة دول المنطقة حول مدن كبرى نجم حجمها عن أنشطة اقتصادية وتجارية كان لها ثقلاً تاريخياً مهمّاً. دمشق أعطت لسوريا نقطتها المركزية وبالتالي مشروعيتها، وكذلك بغداد بالنسبة للعراق، وبيروت بالنسبة للبنان، والقدس بالنسبة لفلسطين. تعاملت بعض النخب الثقافية والسياسية في لا وعيها ووعيها أحياناً كثيرة مع هذا الواقع وكأنه نتاج تطورعمراني وتاريخي وليس صناعة مخططات امبريالية. وشكل ذلك أيضاً، دون شك، عنصراً مساعداً في عملية التجزئة وديمومتها. ولا تزال هذه النخب تتعامل مع واقعنا السياسي والاجتماعي على هذا الأساس وكأننا في دول ناجزة تتابع تتطورها التاريخي بين الأمم بهدوء وسكينة حاملةً علمها ونشيدها الوطني غير آبهة بكل المعوقات وبظروف نشأتها.

أنتجت المخططات الاستعمارية التي اجتاحت منطقتنا واقعاً ماديّاً جديداً في الدول التي نتجت عنها؛ واقع مادي محكوم بالجغرافيا المجزأة، وببنيتها الاجتماعية التاريخية القائمة على القرابات القومية والعرقية والطائفية وغيرها. بالطبع، لم تكن هذه التناقضات المجتمعية من صنيعة الاستعمار نفسه فهي سابقة له، إلا أنه حوّلها إلى نزاعات في إطار مشروعه الذي هدف إلى تفكيك الدولة من الداخل. وصنع الاستعمار، في الهندسة الكولونيالية لجغرافيا المنطقة، علاقات إنتاج تابعة، مستغلّاً التناقضات المجتمعية الداخلية وفي الوقت نفسه، جعل تلك التناقضات جزءاً من البنيان الفوقي، السياسي والاجتماعي، الذي يتلاءم مع علاقات الانتاج هذه، مما ثبت تلك التناقضات كحاجة موضوعية لعلاقات الإنتاج تلك. إنه، بدهاء وخبث، هندس علاقات إنتاج على قياس البنيان الفوقي المؤلف من تناقضاتنا الاجتماعية؛ فجعل لهذه التناقضات دوراً وأبّدها بحكم الحاجة إليها. تدّخل الاستعمار بشكل عنيف في تطورنا التاريخي وحرفه عن مساره الطبيعي وحبسنا داخل تناقضاتنا.

"أيها السادة، الصفقة سوف تكون مربحة". هذا ما قاله الجنرال غورو رافعاً كأسه في حفل عشاء أقيم على شرفه قبل أن يغادر فرنسا لاحتلال سوريا ولبنان.
إنّها صفقة القرن الماضي. ولكن سيكون لكل قرن صفقته إن لم نحسن المواجهة.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 365
`


جواد الاحمر