صندوق النقد.. آخر سكاكين السلطة

 

شكّلت أزمة انتشار وباء كورونا مَخرجاً مؤقّتاً لقوى السلطة أمام انتفاضة السابع عشر من تشرين في جولتها الأولى، رغم تسارع الإنهيار الإقتصادي والنقدي وإصرار أهل السلطة على الإستهانة بعقول اللبنانيين، والإكثار من وعود بخطط للإصلاح لا وجود لها؛ بينما الممارسات اليوميّة لا تشير إلّا إلى تجدّد الصراعات بين أهل الحكم حول التعيينات المالية والتشكيلات القضائية وعقدَي الخلوي، والتي إنتهت جميعها على قاعدتَيْ المحاصصة و6 و6 مكرّر.

 

لقد ضاعف الخوف من وباء كورونا منسوب القلق لدى اللبنانيين حول مصادر عيشهم ومستقبل أوضاعهم، مع توالي فصول الإنهيار الإقتصادي والمالي الكارثيّة، والتهديد المستمر بمصادرة الودائع في ظل تسارع إنهيار العملة الوطنية، وإنفجار الخلافات، وتقاذف التّهم حول المسؤوليات بين السلطات السياسية والمصرفية والمالية، بعيداً عن مآسي اللبنانيين وحقوقهم وحاجاتهم وظروفهم القاهرة.

 

لقد كشفت عملية الإفلاس التي جرى تدبيرها للاقتصاد الوطني عن أقذر عمليّة نهب منظّمة تَعرَّض لها اللبنانيون على مدار عقود من جانب قوى السلطة السياسية - المالية المافيوية التي تتحكّم بمصير البلاد، والتي تبذل محاولات حثيثة لتحميل النتائج للقوى العاملة والمنتجة؛ ومعها تستفحل المؤشرات السلبية وأبرزها:

- تَهاوي سعر صرف الليرة وتَجاوز سعر الدولار الواحد في السوق السوداء عتبة الـ 5000 ليرة.

 

 - التلويح بمصادرة مدّخرات اللبنانيين الذين أفنوا حياتهم في العمل؛ يحدث ذلك بعد نقل كبار المودعين من سياسيّين ومصرفيّين ودائعهم إلى الخارج.

 

 -تَجاوز ارتفاع مختلف أسعار السلع إلى 100 %، والعديد منها قارب ال 200% بفعل جشع التجار من جهة وارتفاع سعر صرف الدولار من جهة ثانية، في ظل غياب رقابة وزارة الاقتصاد.

 

 - تَصاعُد نسبة الأُسر التي تعيش تحت خط الفقر، حيث وصلت لأكثر من 50 % من عدد السكان بعد أن كانت 30 % قبل الإنهيار؛ ما دعا العديد من المنظّمات الدولية للتحذير من مجاعة تطال اللبنانيين.

 

- إنّ مئات الألوف من العمال والموظّفين باتوا في حكم العاطلين عن العمل بفعل تَهاوي الشركات والمؤسسات في القطاعات كافة، والتي أفلس جزء كبير منها.

 

- إنّ أغلبيّة اللبنانيين ممّن انخفضت رواتبهم، باتوا مهدّدين بفقدان الحدّ الأدنى من الأمن الغذائي البسيط لهم ولأُسرهم.

 

أمام كل ذلك، تستمرّ السلطة الممسكة بمقاليد الأمور في خوض المعارك الوهميّة بديلاً عن البحث عن العلاج الحقيقي لمجمل الأوضاع، ومحاسبة الفاسدين ومَن أهدر المال العام خلال العقود الماضية، وإستعادة المال المنهوب، تستسهل هذه السلطة بخطابها البائس حول أزمات البلد بتكرار سياسة الإستدانة والخضوع للشروط الخارجية وتقديم أوراق الإعتماد لطلب المساعدة ممّن يريدون إخضاع البلد، ويقف على رأسهم صندوق النقد الدولي الذي بات الملجأ الوحيد بعد وضوح الموقف الفرنسي أن لا مساعدات بموجب سيدر، وأنّ الأمر برمّته بات في عهدة صندوق النقد، مُستحوذاً بذلك على رِضى قوى السلطة وضرورة اللجوء إليه؛ وباتت ملامح شروطه واضحة، كان منها تبرئة العميل " الفاخوري" والإجماع على بقاء حاكم المصرف المركزي.

 

لقد برعت قوى السلطة في تقاذف المسؤوليات وإمتهان التّعمية والتضليل، عبر إلهاء المواطنين في قضايا هامشيّة بعيداً عمّا يواجهونه من أزمات. وما نتائج جلسات مجلس النواب في قصر الأونيسكو سوى الوجه الأكثر بشاعة لقوى السلطة عبر إمعانها في تجاهل الإنهيار المتمادي فصولاً، وإستهانتها بحياة اللبنانيين وعقولهم، وأزماتهم المعيشيّة الخانقة عبر تحويل مشاريع القوانين إلى مقبرة اللجان، وهو الأداء الذي أعاد تأكيد إنعدام حسّ المسؤولية الوطنية والإنسانية لدى أكثرية النواب، ومدى الحاجة إلى تغيير هذا الشكل من المجلس النيابي. وعليه ليس مفاجئاً أن تستسهل هذه القوى الفوضى الأهليّة، وإستعادة خطاب الحروب الداخليّة عبر تعزيز وتسريع وتيرة الإصطفافات الطائفيّة وتحريك شارع مقابل آخر.

 

في موازاة ترجيح تصعيد العقوبات الأميركية المالية وإستمرار الحصار جرّاء إبقاء البلد ساحة صراع إقليمي، ومع دخول قانون - قيصر - حيّز التطبيق وتداعيات ذلك على الواقع اللبناني، وملامح التعاون المستمر بين الرجعيّات العربية والعدو الإسرائيلي والولايات المتحدة لفرض صفقة القرن، يبدو أنّ واقع الحال المأزوم سيستمر في الإنحدار بسرعة أكبر مع إستمرار عجز مؤسّسات الدولة عن تأمين الحاجات الضرورية والخدمات الأساسيّة.

 

هذه المؤشّرات الكارثيّة تستدعي من قوى المعارضة كافّة الإستفادة من دروس الإنتفاضة في مرحلتها الأولى وما سبقها من تجارب، وإستعادة تثخين، وتسخين الشارع وضرورة دفع القوى المتضرّرة وأصحاب الحقوق وأهل المطالب لخوض هذه المعركة، وتشكيل الأطر النقابية والأهلية للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم وخوض غمار معارضة شاملة وعلى مختلف المستويات، في ظل الصمت المطبق لقيادة الإتحاد العمالي العام عن مسؤولية قوى السلطة الحاكمة عن الإنهيار الإقتصادي والمالي المُريع.

 

ويبقى الأساس ضرورة العمل على صياغة برنامج نضالي واقعي قريب من الناس قادر على إستقطاب جميع الفئات المتضرّرة، للمشاركة في الدفاع عن وجودها وحقوقها وضمانات عيشها، ومواجهة الإختناق الذي تقودها صراعات قوى السلطة نحوه.

 

  • العدد رقم: 379
`


علي متيرك