"فرمان" فرنسي جديد... مئوية بؤس، وسلطة مرتهنة

تتكشّف مجموعة صراعات وتناقضات في الوضع اللبناني منذ إستقالة حكومة سعد الحريري بعد إنتفاضة 17 تشرين، هذه الصراعات والتناقضات تأخذ طابعاً لبنانياً وإقليمياً ودولياً وقد نجم عنها حتّى الآن تبدّلات وتحوّلات شديدة الأهمية، أبرزها إتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، والصراع التركي الأوروبي في حوض البحر المتوسط، والزيارات الأمريكية المتكررّة للمنطقة، وحضور فرنسيّ قويّ سافرٌ في الشؤون اللبنانية الداخلية أفضى إلى تكليف السفير مصطفى أديب لتشكيل الحكومة الجديدة، فضلاً عن الوضع الفلسطيني الذي يخضع لإختبار مشاريع نتنياهو التوسًعية العدوانية، مستفيداً من الدعم غير المحدود من قبل إدارة ترامب والحضور الأميركي القوي في المنطقة والجهود المبذولة من إدارته لتحقيق صفقة القرن، أمام إستقالة وتواطؤ الدور الرسمي العربي.


تشير كل الدلائل إلى أنّ تبدلات أخرى ما زالت قيد التبلور في الداخل اللبناني، والتي أتت على لسان ماكرون نفسه في زيارته الأولى بعد إنفجار مرفأ بيروت، بالدعوة إلى عقد سياسي جديد في لبنان، مشترطاً إجراء إصلاحات للإفراج عن أموال سيدر ومهدداً بفرض عقوبات، حال عدم تنفيذ هذه الشروط والتي ستقع أعباؤها على الشعب اللبناني.
إنها لمفارقة عجيبة أن يصادف الإحتفال بمئوية لبنان الكبير، فيما يجد اللبنانيون أنفسهم امام إستحقاقات مليئة بالمخاطر. إذ لا يخفى على أحد من اللبنانيين مدى الخطر الذي يهدّد حاضرهم ومستقبلهم، والذي يتمثّل في الإنهيار المالي والإقتصادي، والمفارقة تكمن بالتحديد بعودة هذه السلطة إلى إستخدام نماذج إقتصادية سبّبت هذا الإنهيار، والقائمة على الإستدانة من الخارج والإرتهان للشروط السياسية والإقتصادية نفسها، بدل البحث في كيفية إستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج، وعدم تحميل أعباء هذا الإنهيار للطبقات الشعبية وذوي الدخل المحدود.
إنّ لبنان في مئويته يتعرّض لأخطار كانت تبرز في الماضي في أشكال محددّة، في صورة عدوان أو صورة إحتلال او في صورة تدخّل في حياة البلاد سياسياً أو إقتصادياً، وسوى ذلك. أمّا اليوم وبعد كل هذا التاريخ أصبح في صورة إنتقاص من الإستقلال والحرية. كل ذلك بفعل طبيعة النظام السياسي القائم على التوازنات الطائفية وصراعات المحاور، وكأننا لم نخرج من الظروف التي أحاطت بإنشاء دولة لبنان الكبير حتى تاريخ الإستقلال، بما في ذلك الصراع الفرنسي الإنكليزي حول من ستكون له كلمة الفصل في مرحلة ما بعد الإستقلال.
يدخل ماكرون إلى لبنان حاملاً "فرمانه" معززاً بحاملة الطائرات، مستفيداً من أزمة السلطة التي تعاني العجز في مواجهة أزمة إقتصادية وإجتماعية مترافقة مع إنفجار مرفأ بيروت، طارحاً عقداً سياسياً جديداً برزت ملامحه بإستقالة حكومة حسان دياب، وتكليف السفير مصطفى أديب بتشكيل حكومة جديدة، مهدداً بحجب المساعدات وفرض العقوبات إن لم تتحقق الإصلاحات المطلوب خلال الأشهر الثلاثة القادمة؛ ومما لا شك فيه أن هذه الإصلاحات ستكون على حساب مصالح الفئات الشعبية ونهب مقوّمات الإقتصاد اللبناني وثرواته، وبيع للمؤسسات العامة (مطار، كازينو، خليوي، رفع الدعم عن السلع الضرورية، زيادة الضرائب...).
أعلن الجنرال غورو ولادة لبنان الكبير ووضعت إدارته الدستور في العام ١٩٢٦ وتمّ إقراره والإعلان عن قيام الجمهورية اللبنانية، رغم ذلك بقيت الصراعات وحدثت تبدّلات إشتركت فيها كل القوى السياسية والإجتماعية، فكان الميثاق الوطني غير المكتوب رغم ذلك اندلعت حرباً أهلية أولى ترافقت مع تأييد كميل شمعون لحلف بغداد. بعد إتفاق القاهرة ومجزرة أيلول في الأردن، دخلت المقاومة الفلسطينية لبنان، بالترافق مع إنفجار أزمة حادّة حول الموقف من القضية الوطنية، تمثّلت بكثرة الإعتداءات الإسرائيلية وصولاً لضرب مطار بيروت، وعجز الحكم عن الردّ، وإختلاف عميق حول دور لبنان في المواجهة، بين رأي يقول أن قوة لبنان في ضعفه تجنّباً للدخول مع البلدان العربية في المواجهة مع إسرائيل وهو رأي يعود ليُطرح من جديد على لسان البطرك الراعي في مسألة الحياد؛ ورأي آخر طالب بالرد على الإعتداءات وتحصين القرى الحدودية، وقد نشأ عن ذلك قيام الحركة الوطنية التي رفعت شعار التغيير الديمقراطي والمطالب الإجتماعية والوطنية ودعم المقاومة الفلسطينية، سرعان ما إستخدمت السلطة السلاح مع قوى المعارضة الوطنية، مما أدخل البلاد في حرب أهلية غرق الجميع فيها بنسب ومستويات مختلفة كانت نهايتها إتفاق الطائف برعاية دولية وعربية والذي إختلف اللبنانيون على تطبيقه أو تفسيره بأشكال مختلفة أو تطبيقه المشوّه من قبل السلطة.
ودون كثير تحليل، لا شكّ أن الساحة الداخلية قد تهالكت بفعل التدخلات الخارجية، رغم كل الإتفاقات والتسويات التي عُقدت بين أطراف السلطة. أمّا الجديد فيما جاء به ماكرون فهو إعلان أنّ هذا الشكل من النظام قد تهالك وعلى حافة الإنهيار أمام أزماته المتعددة وضرورة عودة الروح إليه تحت الرقابة الدولية وبإشراف فرنسي مباشر عبر مساعدته المالية من خلال سيدر وصندوق النقد الدولي، ومقدمة للمرحلة القادمة في حلبة الصراع الدولي على النفط في حوض البحر المتوسط.
إذاً، رغم إستقلالنا ومئوية بلادنا لا زلنا نعجز عن التقدم وتثبيت دعائم إستقلالنا؛ لذلك القضية ليست مرتبطة بتدخًل ماكرون هذه المرًة وليست بعقده السياسي الجديد طالما بحث هذا العقد مع أركان السلطة نفسها التي أوصلت البلاد إلى هذا الإنهيار ومنعت قيام الدولة والمؤسسات، وإستعاضت عنها بدولة-المزرعة. إنّ إعادة إنتاج هذا الشكل مرّة جديدة يشكّل خطراً على الكيان اللبناني أكثر من أي وقت مضى، وحيث أن الخارج لم يسعَ يوماً لوحدة هذا الكيان، بل سعيه كان دائماً بإتجاه الفيدراليات ومشاريع أزمات وحروب أهلية مستمرة، ومشاريع تفتيت للدولة وللمجتمع.
إذاً القضية تكمن في غياب الدولة الوطنية الديمقراطية ومؤسساتها، وفي طبقة سياسية مرتهنة تمنع أي تطور مستقل للبنان، ولا تسعى إلاّ بإتجاه تعزيز النزاعات الطائفية على قاعدة "فرّق تسُد".