الأسلحة السيبرانية تُحدِق بنا: "بيغاسوس" مثالاً

فجأةً، أحسَّ الأفراد الذين يعيشون في هذا العالم أن هنالك تهديداً جديّاً يترصَّدهم، ساحته العالم الافتراضي، وسلاحه برمجيات تتسلل إلى أجهزة الهاتف المحمول الذكية التي لا تفارق أياديهم. إنها أسلحة لا تقتل، لكنها تغتال شخصية الضحية معنوياً وتجعله موضع ابتزازٍ دائمٍ، بعد السطو على معلومات شديدة الخصوصية من جهاز هاتفه الذكي الذي أيقن أنه أصبح بلا مأمن منذ اللحظة التي اقتناه فيها، ومع ذلك صار غير قادر على الاستغناء عنه. هذا ما أكدته فضيحة التجسّس التي كُشف عنها أخيراً، والتي جرت عبر برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي الذي اشترته عدة دول، واستخدمته للتجسس على عدد كبير من الشخصيات عبر هواتفهم المحمولة.

 

وظهرت هذه الفضيحة حين نشرت 17 وسيلة إعلامية، أواسط تموز / يوليو الماضي، تحقيقاً عن برنامج "بيغاسوس" للتجسُّس على الهواتف الذكية الذي طوّرته شركة "أن أس أو" الإسرائيلية، واستخدمته دول كثيرة، بينها دولٌ عربيةٌ، في التجسُّس على مئات الصحافيين والناشطين الحقوقيين والشخصيات السياسية وأصحاب الشركات، إضافة إلى رؤساء دول وملوك، بينهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والملك المغربي محمد السادس، علاوة على رؤساء حكومات حاليين وسابقين، بينهم سعد الحريري. وتعود عملية التجسُّس، وفق قائمة بالضحايا حصلت عليها تلك الوسائل الإعلامية من "منظمة العفو الدولية" ومنظمة "فوربيدن ستوريز"، إلى سنة 2016، وتقول إن 50 ألف خط هاتفي كانت ضحية تجسُّس بواسطة هذا البرنامج. ويعتمد البرنامج على آلية اختراق هواتف الضحايا النقالة، والتنصّت على مكالماتهم ونسخ صورهم والتقاط صور وفيديوهات لهم بعد تشغيله كاميرا الجهاز، كما يمكنه الاطلاع على رسائلهم وبريدهم الالكتروني وتصفُّح جهات الاتصال، علاوة على قدرته على تسجيل الأحاديث الشخصية الجانبية التي تجري في المكان الذي يتواجد فيه الجهاز.

 

لطالما تملّكت الخشية مستخدمي أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية من البرمجيات الخبيثة التي قد يُرسلها هاكرز أفرادٌ مجهولون فتتسلل إلى أجهزتهم وتستولي على ملفاتهم، فينتفعون بها عبر استخدام المفيد منها في أعمالهم وبيعها إلى الشركات التجارية، وفي أحيان أخرىٍ تكون وسيلتهم في الابتزاز والحصول على أموال. أما أن تلجأ الحكومات إلى تلك البرمجيات من أجل التجسُّس على مواطنيها المفترض بها ضمان خصوصيات حيواتهم، في خرقٍ لواحدةٍ من حقوق الانسان، الحق في الخصوصية، فذلك ما لم يكن يخطر على بال كثيرين، خصوصاً في الدول التي تصنِّف نفسها ديمقراطية. وفي حين تعتبر الدول التي أخذت تنتهك خصوصيات أفرادها أن ذلك لهو ضروريٌّ لحماية المجتمع من الإرهاب، خصوصاً بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، أخذ الأفراد يعتبرون هذا الأمر تأكيداً على تراجع قيم الديمقراطية في بلدانهم. ومن هذا المنطلق علَّقت منظمة العفو الدولية بأن الفضيحة "كشفت أزمة حقوق إنسان عالمية"، وقالت إن لهذه البرامج عواقب على حقوق الانسان العالمية وأمن البيئة الرقمية، وطالبت بوقف استخدامها وبيعها لأنها سلاح الحكومات القمعية لسحق المعارضة.

 

صحيحٌ أن أمر استخدام البرمجيات الخبيثة ليس جديداً، بل وصل إلى حدّ كشف المتعاقد السابق مع "وكالة الأمن القومي الأميركية"، إدوارد سنودن، سنة 2013، أن هذه الوكالة قد استخدمت برنامج "بريسم" للتجسُّس على نطاق واسع، شمل رؤساء دول حليفة للولايات المتحدة. إذ كشف إن الوكالة تنصتت على هاتف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الشخصي، ما ألحق ضرراً وعدم ثقة في العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، وزاد من التساؤل عن مدى هذا التجسُّس، والشخصيات التي كان يستهدفها. أما الآن، ومع ظهور فضيحة "بيغاسوس"، بدا الأمر أشبه بالفوضى، حين ظهر أن الجميع يتجسُّس على الجميع، وأن (الشاطر) هو من يحمي نفسه من برمجيات الآخرين الخبيثة، ويجعل، بالمقابل، برمجياته الخبيثة تشتغل بفعالية على أجهزتهم فيحصل على كلّ تفاصيل حياتهم اليومية منذ لحظة استيقاظهم، حتى نومهم، بل وتسجيل همهماتهم أثناء هذا النوم.

 

إنه الوقوع تحت رحمة سلاحٍ غير مرئي لكنه موجودٌ، تأثيره واقع ومؤثِّر. أما الأخطر من كلّ هذا، فهو عملية تمليكِ أي شخص كان، بمجرد أنه قادر على الدفع، أسلحةً سيبرانيةً، ووضعها في يده لكي يرسلها إلى الشخص الذي يخطر بباله، ليسطو بواسطتها على تفاصيل حياته الشخصية وخصوصياته، من أجل تهديده وابتزازه عبر أسهل الطرق. كما إنه سلاح بيد الحكومات القمعية لاستهداف المعارضين ومتابعة نشاطاتهم، بل واغتيالهم، كما حدث في قضية اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، الذي تبين أنه كان ضحية عملية تجسُّسٍ بواسطة واحدة من برمجيات "أن أس أو" الإسرائيلية التي سهلت استهدافه على تلك الشاكلة.

 

هل "بيغاسوس سلاحٌ سيبرانيٌّ؟ وهل يشكِّل خطورة على ضحاياه وحدهم أم يشكل كذلك خطورةً على مستخدميه؟ لا يمكن الإيقان بأنه سلاحٌ إلّا عندما نكتشف أن كثيرين من العاملين في شركة "أن أس أو" الإسرائيلية كانوا موظفين سابقين في "الوحدة 8200" التابعة للاستخبارات الإسرائيلية والمسؤولة عن التجسُّس الإلكتروني، والتي أنشأتها دولة الاحتلال قبل ثلاثة عقود لكي تكون مسؤولة عن قيادة الحرب الإلكترونية في جيش الاحتلال. ولذلك تتمتع شركة "أن أس أو" بصلاتٍ وثيقةٍ مع "الوحدة 8200"، وهو ما يفسر ضرورة حصول الشركة على موافقة الحكومة الإسرائيلية والأجهزة المعنية قبل بيع أي من منتجاتها، من قبيل برنامج "بيغاسوس" لعملاء خارجيين، على الرغم من توصيفها شركةً خاصةً.

 

وتكمن خطورة البرنامج في أنه سريع الولوج إلى هواتف الضحايا، ويمكن تنصيبه بسهولة بالغة عبر الضغط على رسالة "أس أم أس" عادية يتخفّى فيها، أو على مكالمة فائتة على أي من برامج وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "واتس أب" أو "ماسينجر" وغيرهما. وتزداد الخطورة لدى معرفة أنه لا مجال للجدال حول إمكانية وصول المعلومات التي تجمعها الدول والمؤسسات التي تستخدم برنامج "بيغاسوس" التجسُّسي إلى المجموعة الإسرائيلية المنتجة له، "أن أس أو"، وبالتالي إلى "الوحدة 8200"، لاستخدامها ضدّ ضحايا التجسُّس ومشتريه، على السواء، في مراحل لاحقة. كما يمكن الاحتفاظ بالمعلومات التي يجمِّعها في خوادم الشركة الإسرائيلية إلى حين بيعها للراغبين من أجهزة الاستخبارات العربية أو الغربية، علاوة على تمكين الحكومة الإسرائيلية من الولوج إلى هذه المعلومات بسلاسة من أجل استخدامها لخدمة سياساتها في المنطقة.

 

من هنا يصبح الكلام الجاري في الغرب، وفي منطقتنا العربية أيضاً، عن أن برامج التجسُّس الشبيهة ببرنامج "بيغاسوس" أخذت تشكل خطورةً على الديمقراطية والحريات في العالم، كلاماً أكثر منطقية حين التأمل بهذا الجهاز الذي لا يمكن لأحدنا أن يمضي حياته بشكل طبيعي من دونه، على الرغم من أنه بات يعدُّ، أكثر فأكثر، أداةً لقمعنا. وإذا استمرت الحكومات في شراء هذه البرمجيات واستخدامها أدوات تجسُّسٍ وقمعٍ، وإذا لم تتنطع المنظمات الدولية لتحريمها، فإنها صناعتها ستزدهر، وسيكون عدد 50 ألف ضحية من ضحايا "بيغاسوس" هذه الأيام، عدداً صغيراً ومهملاً عند مقارنته بملايين الضحايا المحتملين في السنوات المقبلة.