الأسلحة السيبرانية تُحدِق بنا: "بيغاسوس" مثالاً (2)

إنه الوقوع تحت رحمة سلاحٍ غير مرئي لكنه موجودٌ، تأثيره واقع ومؤثِّر. أما الأخطر من كلّ هذا، فهو عملية تمليكِ أي شخص كان، بمجرد أنه قادر على الدفع، أسلحةً سيبرانيةً، ووضعها في يده لكي يرسلها إلى الشخص الذي يخطر بباله، ليسطو بواسطتها على تفاصيل حياته الشخصية وخصوصياته، من أجل تهديده وابتزازه عبر أسهل الطرق. كما إنه سلاح بيد الحكومات القمعية لاستهداف المعارضين ومتابعة نشاطاتهم، بل واغتيالهم، كما حدث في قضية اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، الذي تبين أنه كان ضحية عملية تجسُّسٍ بواسطة واحدة من برمجيات "أن أس أو" الإسرائيلية التي سهلت استهدافه على تلك الشاكلة.

 

هل "بيغاسوس سلاحٌ سيبرانيٌّ؟ وهل يشكِّل خطورة على ضحاياه وحدهم أم يشكل كذلك خطورةً على مستخدميه؟ لا يمكن الإيقان بأنه سلاحٌ إلّا عندما نكتشف أن كثيرين من العاملين في شركة "أن أس أو" الإسرائيلية كانوا موظفين سابقين في "الوحدة 8200" التابعة للاستخبارات الإسرائيلية والمسؤولة عن التجسُّس الإلكتروني، والتي أنشأتها دولة الاحتلال قبل ثلاثة عقود لكي تكون مسؤولة عن قيادة الحرب الإلكترونية في جيش الاحتلال. ولذلك تتمتع شركة "أن أس أو" بصلاتٍ وثيقةٍ مع "الوحدة 8200"، وهو ما يفسر ضرورة حصول الشركة على موافقة الحكومة الإسرائيلية والأجهزة المعنية قبل بيع أي من منتجاتها، من قبيل برنامج "بيغاسوس" لعملاء خارجيين، على الرغم من توصيفها شركةً خاصةً.

 

وتكمن خطورة البرنامج في أنه سريع الولوج إلى هواتف الضحايا، ويمكن تنصيبه بسهولة بالغة عبر الضغط على رسالة "أس أم أس" عادية يتخفّى فيها، أو على مكالمة فائتة على أي من برامج وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "واتس أب" أو "ماسينجر" وغيرهما. وتزداد الخطورة لدى معرفة أنه لا مجال للجدال حول إمكانية وصول المعلومات التي تجمعها الدول والمؤسسات التي تستخدم برنامج "بيغاسوس" التجسُّسي إلى المجموعة الإسرائيلية المنتجة له، "أن أس أو"، وبالتالي إلى "الوحدة 8200"، لاستخدامها ضدّ ضحايا التجسُّس ومشتريه، على السواء، في مراحل لاحقة. كما يمكن الاحتفاظ بالمعلومات التي يجمِّعها في خوادم الشركة الإسرائيلية إلى حين بيعها للراغبين من أجهزة الاستخبارات العربية أو الغربية، علاوة على تمكين الحكومة الإسرائيلية من الولوج إلى هذه المعلومات بسلاسة من أجل استخدامها لخدمة سياساتها في المنطقة.

 

من هنا يصبح الكلام الجاري في الغرب، وفي منطقتنا العربية أيضاً، عن أن برامج التجسُّس الشبيهة ببرنامج "بيغاسوس" أخذت تشكل خطورةً على الديمقراطية والحريات في العالم، كلاماً أكثر منطقية حين التأمل بهذا الجهاز الذي لا يمكن لأحدنا أن يمضي حياته بشكل طبيعي من دونه، على الرغم من أنه بات يعدُّ، أكثر فأكثر، أداةً لقمعنا. وإذا استمرت الحكومات في شراء هذه البرمجيات واستخدامها أدوات تجسُّسٍ وقمعٍ، وإذا لم تتنطع المنظمات الدولية لتحريمها، فإنها صناعتها ستزدهر، وسيكون عدد 50 ألف ضحية من ضحايا "بيغاسوس" هذه الأيام، عدداً صغيراً ومهملاً عند مقارنته بملايين الضحايا المحتملين في السنوات المقبلة.