هل يعود العسكر إلى واجهات الحكم في العالم العربي؟

المعضلة التي تواجه التغيير في المنطقة منذ 2011، هي المراوحة بين حدّين: الجزمة العسكرية أي الجيش أو اللحية أي الإسلام السياسي، ممثلاً بجماعة "الإخوان المسلمين" أو الإسلام الجهادي. وإذا كان دور العسكر حاسماً في انتقال بلد أوروبي مثل البرتغال نحو الديمقراطية، فإن في عالمنا العربي أدى وجود الجيش في قلب اللعبة السياسية إلى نتائج مغايرة لما يريده الديموقراطيون، فقد أجبر ما يُسمّى بالربيع العربي، وما بعده، الكثير من المؤسّسات العسكرية على إظهار نفسها بشكلٍ واضحٍ كطرفٍ سياسي مُتحكّم إلى حد كبير في مجريات الواقع السياسي وتحوّلاته. وشكّل انقلاب وزير الدفاع المصري الفريق أول عبد الفتاح السياسي على حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي، وعودة العسكر إلى الحكم في أكبر دولة عربية، منعطفاً ومؤشّراً إلى استحالة اقتلاع الدور السياسي الفاعل للجيش في الحياة السياسية.

ومع ظهور الجيش كقاسم مشترك في الحراك الشعبي الجديد الذي تشهده السودان والجزائر والأزمة الليبية، ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة هل سيتكرر في هذه الدول الثلاث ما حصل في مصر؟ وهل ثمة عودة إلى حكم العسكر؟ إلى أين يسير العسكر في الحراك العربي الجديد، وبشكل أدّق إلى أين يسير عرب القرن الواحد والعشرين؟
نموذج الإنقلاب الداخلي في الجيش البرتغالي ونموذج التحييد الخارجي في تركيا، ونموذج التحوّل المؤسّساتي في أندونيسيا وفي دول أخرى مثل تشيلي وإسبانيا ، تؤكّد أنه لا توجد وصفات "جاهزة" لمأسسة العسكر وللعبه الدور السياسي الإيجابي بدل دوره الرّافض لكل تغيير.
أمّا في العالم العربي فإن ثلاثة عوامل تضبط أو تتحكّم بحركة الجيش ودوره في الحياة السياسية، وهي كالآتي أدناه.
الدعم الأجنبي
رغم تقلّص الدعم الأميركي لكثير من جيوش العرب، إلّا أن التحّولات الجديدة لما بعد "الربيع العربي" أفرزت آلياتٍ جديدة للدعم من خلال التمويل الخليجي، الذي تحوّل نحو العسكر في ليبيا والسودان وحتى الجزائر. ولم يسهم دعم البترودولار في تقوية الدول بل على العكس من ذلك أصبح عاملاً مهماً من عوامل التشقّق السياسي والمؤسّساتي.
شرعنة الحكم العسكري
لم تتمكّن الدول العربية والتي شهدت حراكاً من بناء منظومة إعلامية مستقلة، كما أن المؤسّسات الدينية الرسمية لم تستطع أن تنأى بنفسها عن معترك السياسة. لقد وجد الدعاة والوعّاظ أنفسهم أمام واقعٍ جديد في الربيع العربي. وسرعان ما عاد الوعّاظ إلى لعب دورهم التقليدي في شرعَنة حكم الغالب "ذي الشوكة" كما سمّاه الفقهاء.
تحالفات الإسلاميين مع فقهاء السلطان أضعفت مشروع البناء الديمقراطي، وأسهمت في ترسيخ شرعية العسكر حين تبنّت شرعية التغلّب و"غزوة الصناديق". في النموذج المصري، سرعان ما استبدل السلفيون العسكرَ بالإخوان. وتحوّل الكثير من وسائل الإعلام والتواصل إلى آليات دعائية غير قادرة على بناء وعي مجتمعي صحيح، وأسهم الاستعجال الذي طبع "الربيع العربي" في سيطرة لغة الشعارات بدل البحث عن برامج اقتصادية وسياسية حقيقية وفعّالة.
أزمة المأسسة
غابت مأسسة الدور السياسي للعسكر في الحياة السياسية، وغاب معها إمكان بناء نسق سياسي واضح المعالم. ففي أغلب الدول العربية يرتبط الجيش بالحاكم العسكري، ويمثل أحياناً امتداداً لشخصه.
في السودان، أسهمت البراغماتية "المائعة" التي قادها العسكر والإسلاميون في فقدان الجيش والدولة على حد سواء لأسس واضحة للشرعية. لقد فرّط الجيش في الحدود الإقليمية للدولة وبحث لنفسه عن أحلاف من دون أيّ تصوّر وطني استراتيجي مما ضبّب الرؤية السياسية وأفقد الجيش قدرته على بناء عقيدة وطنية واضحة.
في المقابل فإن ما يُميّز الانتفاضة السودانية عن سواها، هو نجاحها خلال السنوات الماضية، في مراكمة التجارب وإعادة إنتاج الحراك المعارض بأشكال متنوعة. كما نجحت المعارضة السودانية في إيجاد مساحات مشتركة للنضال وائتلافات واسعة لم نشهد لها مثيلاً في أكثر دول المنطقة المُنتفضة على حكامها.
وأيضاً، نتيجة التجربة المصرية المريرة، لن يثق الثوار السودانيون بالجيش. اليوم، بات هناك وعي كامل بأن الديمقراطية لن تأتي عن طريق ضباط الجيش. المعارضة أجابت بإعادة التأكيد على ضرورة السلطة المدنية، وعلى إجراء الانتخابات كي تنعكس إرادة الناس في صناديق الاقتراع.
ومع ذلك لا يمكن التنبؤ بطبيعة المسار الذي قد يسلكه الحراك السوداني أو التجربة السودانية الجديدة نظراً إلى تشريع النوافذ والأبواب السودانية أمام رياح التدخلات الخارجية.
على النقيض من الجيش السوداني، يبدو الجيش الجزائري ذو انسجام أكبر. لقد لعبت حرب التحرير الدور المهم في بناء شرعية وطنية استقلالية، تجاوزت أحياناً حدّها الوطني لتستأثر وحدها بالسلطة من دون مبرّرات معقولة، ومن دون موارد حقيقية لتجديد مشروعيتها.
أسهمت سياسات بوتفليقة في إضعاف النخبة الفرنسية في الجيش من الذين كانوا مع المستعمر، ولم يتبقَ من القيادات التقليدية إلا أولئك الذين قاتلوا فرنسا. أثر هذا التحوّل على الحساسية "السيادية" للجيش تجاه الغرب وخصوصاً فرنسا التي لا زالت حاضرة بقوّة في المشهد الجزائري. بمقابل هذا، لم تستطع الجزائر بعد أن تضع حدوداً للتدخّل العسكري في بلادها، فالجيش ما زال متحكّماً إلى حدٍّ كبيرٍ في الحكم، وأغلب رؤساء الجزائر ينتمون بشكلٍ أو بآخر إلى المؤسّسة العسكرية.
لازال العسكر مسيطراً على الأنشطة الإقتصادية الكبرى وعلى السياسات العامة في مقابل صعود برجوازية جديدة متربّحة من الفراغ الذي أعقب إبعاد جنرلات فرنسا. هل يمكن التعويل على الإصلاح الدستوري لتحييد دور العسكر السياسي؟ لقد أثبت التاريخ السياسي القريب أن التحوّلات السياسية الكبرى لا ترتبط بتغيير الوثائق الدستورية من دون تغيير أسس الشرعية والتحوّل من شرعية القوّة إلى قوّة الشرعية.
أما في ليبيا فالقصة مختلفة تماما، ذلك لا وجود لجيش فعلي في ليبيا منذ زمن القذافي، في حين أدّت الأزمة المستمرة منذ 2011 إلى غياب كامل للمؤسسات المركزية ووقوع سلطات الدولة تحت هيمنة المجموعات المسلحة وشغلها الوظائف الرسمية. وتُعتَبر معركة طرابلس جولة أخرى من صراع حكومة الوفاق وقوات المشير خليفة حفتر، وجولة أخرى من صراع خليجي ــ خليجي يُزكّيه دعمٌ مصري وتركي، وجولة أخرى أيضاً من صراع فرنسي إيطالي على دولة باحتياطي 48 مليار برميل من النفط، وصراع نفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا، العالم يتقاتل في طرابلس. وبين هذا وذاك يقف المواطن الليبي مُعتصراً بين أزمة السيولة وقصف الطائرات في انتظار انتهاء الفرقاء الليبيين من الخراب الذي خلّفته التدخّلات الخارجية في بلدهم.
وختاماً، فإن الثورة الشعبية وحدها غير كافية لولادة الديمقراطية. الديمقراطية لا تتولّد عن الثورة مباشرة، بل بعد سلسلة إصلاحات دستورية وقانونية وحوارات ومساومات سياسية تتلوها. الثورة تغيّر النظام، والإصلاح يبني الديمقراطية بعد تسلّم السلطة.

 

  • العدد رقم: 356
`


أمين قمورية