إذا المخيمات انتفضت...!

حينما كتبت في نصّها "نحن اللاجئون"، كانت حنا آرندت تحاكي فيه ذاكرةَ، وذهنيةَ المقتلع. خصوصية كلّ اللاجئين الذين يعرفون معنى أن تتحولَ من مواطنٍ إلى لاجئ، ومنه إلى غريب، وتُسجّل في قائمة الأجانب المعادين "تقنيّاً"، في سيرةٍ من التأمّلات في العلاقة بين التقنية والواقع، وفي لائحة الممنوعات، فمثلًا، ممنوع من العمل "تقنيّاً"، وممنوع من مغادرة بيتك "تقنيّاً"، وبموجب القانون، وفي الساعة كذا. وأضافَتْ حرفيّاً "إنّ تفاؤلنا هو في الواقع تفاؤلٌ مثير للإعجاب، حتى لو قلنا ذلك نحن نفسنا. إن قصة كفاحنا قد صارت في نهاية الأمر معروفة. نحن خسرنا موطنَنا، وذلك يعني ألفة الحياة اليوميّة. نحن خسرْنا عملَنا، وذلك يعني الثّقة في أننا مفيدون بشكلٍ ما في هذا العالم. نحن خسرْنا لغتَنا، وذلك يعني طبيعيةَ ردود الفعل، وبساطةَ الإشارات، والتّعبيرَ المكثّف عن المشاعر".

لم يكن محضَ صدفةٍ، أن تلتهبَ المخيمات من عود ثقابٍ أشعَلتْه وزارةُ العمل المصممة على تفعيل وتنفيذ القانون لـ(مكافحة العمالة الأجنبيّة غير الشّرعيّة). السّببُ المباشرُ والظاهر، ولكنه ليس الوحيد، لأنّ له مقدماتٍ وتراكماتٍ عديدة.
لم يكن مجردَ صدفةٍ، أن يحضرَ البعدُ السياسيّ للقانون، وافتقاده للبعد الأخلاقيّ، والإنسانيّ، من خلال مقاربةٍ للخلفيات التي أوجدَتْه، والآثار المترتبة على الوجود الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، لفلسطينيّي لبنان.
لم يكن محضّ صدفةٍ، أن يسبقَ الإجراءَ مُناخٌ تحريضي ضدّ العمالة الأجنبية، الظاهر أن المقصودَ هو العامل السوري تحت وطأة خطابٍ سياسيّ مبنيّ على ثقافة الكراهية ضدّ النّازحين السّوريين، وصولاً إلى استخدام لغةٍ عنصريّة مقيتة.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن ينفجرَ المخيمُ، وهذا ما كان دائماً محلَّ تحذير، وبعيداً عن التّفسير الفقهيّ للقوانين، فهو لا يرفضُ القانونَ إن كان معياره العدالة، والأهم في الخصوصية الفلسطينية لا يستبعد البُعد السياسيّ.
لم يكن الأمرُ صدفةً، أن تكونَ هناك خصوصية فلسطينية، هي نتاج ظروف قسرية، وليس افتعالاً بقصد التمايز، فالأمم المتّحدة أقرّت بها. لديها وكالاتٌ عدّة للاجئين، لكن يوجد فقط مؤسسة واحدة خاصّة بالفلسطينيين، والحكومة اللبنانية شكّلت مديريةً خاصةً بالفلسطينيين من دون غيرهم، وكذلك لجنةَ حوارٍ مع الفلسطينيين.
معاندةُ الواقع تقفُ وراء إنكارٍ لخصوصية التكوين النفسيّ للفلسطيني اللاجئ في لبنان، وما يحتويه من معيارٍ مرتفعٍ من كبتٍ داخليّ، وخيباتٍ، وأحلام مكسورة، ومن المكابدة الدائمة لحفظ البقاء، ما قد يجهلُهُ البعضُ أنّ الفلسطينيّ لا يبحثُ في القانون عن رفاهيّة، وإن كان هذا الأمرُ حقًّاً إنسانيّاً مشروعاً، إنّما يبحثُ حاجةً، وعن وجودِه.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أنّ القرارَ مسّ الأمنَ الحياتيّ لهذا النموذج الفلسطينيّ القلق أصلاً في واقعٍ حرجٍ، ممّا جعلَ لديه حاسّة استشعار الخطرعن بعدٍ فتحَتْ ذاكرتَه السوداء على حقبةٍ رذيلة من التاريخ، زمن الذل ما قبل الثورة، واستعادَ ذهنية "الغيتو" المغلق الذي انتفض عليه في ظروف ما قبل العام 1969، وما مثّلته تلك السنوات في الضمير الجمعيّ الفلسطينيّ من بطشٍ، وقمعٍ، واضطهاد.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يُطرحَ سؤالُ الكرامة الإنسانية، وحين يعيشُ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان داخل المخيمات وخارجها في أوضاعٍ اجتماعيةٍ، واقتصاديةٍ مزرية، ولم يشهد عام 2011 أيّ تحسن في إمكانية وصولهم إلى سوق العمل، برغم التعديلات التي أُدخِلَتْ على قانون العمل في عام 2010، التي كان من المُقرر أن تخفّفَ منذ ذلك الوصول.
لم يكن محضَ صدفةٍ، عندما يدركُ الإنسانُ الفلسطينيّ أنّه مجردَ أرقامٍ تتداولُها مراكزُ الإحصاء، والتّعدادِ، والبحث، وأنّ السببَ الرئيس لانتهاك إنسانيته عائدٌ إلى دائرة العجز حين تفشلُ الحكومةُ عن تطبيقِ التعديلات. لا تزال القوانينُ، والمراسيمُ اللبنانية تمنع الفلسطينيين من العمل في 25 مهنة على الأقل، الّتي تتطلّبُ عضويةً نقابيّة، بما في ذلك المحاماة، والطّب، والهندسة، كما لا يزالُ اللاجئون الفلسطينيون عرضةً لقانونِ تمييز يتم العمل به، في عام 2001، الذي يمنعُهم من تسجيل ممتلكاتِهم.
لم يكن محضَ صدفةٍ أيضاً أن يترافقَ التوقيتُ مع النزعة الشّعبوية الأميركية، التي تتزايد يوماً بعد يومٍ، و يمكن وصفها بـ(معاداة اللاجئين) عموماً، وصفقة القرن بترجماتها هي (معاداة الفلسطينيين) خصوصاً، وترجماتها بإنكار الحق الفلسطيني، فكان أول دخول ترامب إلى البيت الأبيض بشنّ معركةٍ عنصريةٍ ضدّ مجتمع اللاجئين الفلسطينيين، فكانت أولى الغزوات هي قضية اللاجئين الفلسطينيين.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يترافقَ ذلك مع مخطّط تفليس المؤسسات الراعية للّاجئين، فكان قرارُ ترامب الأول قطعَ التمويل عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، "الأنروا"، والهدفُ معلنٌ، وهو إلغاءُ الوكالة برمّتها تبعاً لما يريدُه ويخطّطُ له بنيامين نتنياهو، المطالب دائماً بضرورةِ تفكيك، وإلغاء الوكالة، وإعادة تعريف اللاجئ، إن كان لاجئاً أصيلاً، ولاجئاً مشتقّاً، أو متفرّعاً، ومحاولة تعديل وظيفة الأنروا كمؤسسة للاجئ الذي بحاجة، أو اللاجئ عموماً، أوالحديث الذي كرّره بعض الساسة اللبنانيين أن الأنروا ليست للاجئ المسجل بل اللاجئ المقيم، أو بشطب اللاجئ الذي حازعلى جنسية أخرى، وهي فقط مؤسسة خاصة بحماية "عديم الجنسية". وكلها تصب في دائرة شطب الأنروا، كونه الشاهد الأمميّ الحيّ على بقاء معضلة ستة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين في سجلّاتها، وتقدّم لهم بعض الخدمات.
وهل الأداء السياسيّ الهابط وحده المعيارالخارجي؟ لايمكن أن يغيبَ، وهذا ليس شغفاً بنظرية المؤامرة، فالضميرُ الجمعيّ الفلسطينيّ، وبحكم التجربة التاريخية للوجود الفلسطينيّ، يدرك أنّ إنهاءَ الصراعِ يبدأ من تدمير مجتمع اللاجئين، بالمعنى الوجودي، والقانوني، والسياسي.
لم يكن صدفةً أن يتلمّسَ الوجود الفلسطينيّ في لبنان هذا الخطر، وأنه ليس خارجَ هذا الاستهداف، وهو الذي عانى ويعاني من سياسة الإغلاق، والخنق، والحروب المتعدّدة، والحقوق الإنسانية الممنوعة، والمكبوتة.
لم يكن محض صدفة، أن تكونَ بيروت المقاومة، حاضنة لمؤتمرات قومية، ووطنية، وإسلامية، وتظاهرات، وأنشطة رافضة للمشروع الأمريكي، ولصفقة القرن، ومواقف رسمية، وحزبية، وشعبية. وأن تعقد مجموعتا العمل الفلسطينية واللبنانية اجتماعاً سياسيّاً في السرايا الحكومي ردّاً على ورشة البحرين، واستهدافات الصفقة، وتداعياتها على لبنان، والقضية الفلسطينية.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يكون توقيت هذه الإجراءات الظالمة، والتعسفية لوزارة العمل اللبنانية خلافاً لهذه الأجواء الإيجابية، بإقفال، وملاحقة العمال الفلسطينيين بلقمة عيشهم، وقوت عائلاتهم، وانتهاك للقوانين والمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان. وأن يتناقض توقيتها بشكلٍ صارخ مع الموقف الرسميّ، والحزبيّ، والشعبي اللبناني الداعم والمساند لشعب فلسطين والقضية الفلسطينية، وأنّ هذه الإجراءات للوزارة لا تخدمُ المصلحةَ المشتركةَ، والعلاقاتِ اللبنانيةَ الفلسطينية، ولا تساعدُ بتوفير البيئة الإيجابية لتقدّمها ونجاحها.
ولم يكن محضَ صدفةٍ، أن تنطلقَ آلياتُ المطاردة، والضغط على حياة الفلسطينيّ، في ظلّ تغطية جرائم وضغوط العدو الصهيوني. وهنا يكمنُ التنازعُ في مشهدِ الكراهية بين فزّاعة الفلسطيني بوصفه الخطر الكامن، وسبب البلاء، والأزمات، والحروب، والبطالة لليد العاملة المحليّة، بينما العامل المحلي، واللاجئ ضحايا سياسات اقتصادية واحدة، ولكن هذا الخطابَ هو عدة الشغل لتحويل الصراع إلى فتنةٍ بين صفوف الطبقة العاملة، وللاستقواء بالواحدة على الأخرى، وتحققُ بذلك فرصةً أسهل لتكوين بيئة معادية للفلسطيني (أنتي فلسطينيزم).مع الأسف كانت فلسطينُ بطاقةَ الدخول إلى جنة السلطة، استبدلت بوسيلة التطبيع كما عند بعض العرب.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يتّسعَ نفوذ التيارات اليمينية، والخطاب العنصريّ، وخاصةً المعادي للّاجئين، والآن، وفي هذا العالم بأسره، وأن تُستخدمَ العنصريةُ كأداةٍ لخدمة صفقة القرن، بل هي السلاح الذي يقتل من دون سفك دماء. لا تنفعُ الشعاراتُ البراقة، والكلماتُ المعسولة حبّاً بفلسطين، فكيف يتم تأكيد عدالة القضية، ونفي العدالة عن أبنائها؟
لم يكن مجردَ صدفةٍ، أن تغلّفَها بثوب الحفاظ على الوطنية، متجاهلةً أن حمايةَ الوطنية لا تتم بالتّطرف، والطائفية بالعنصرية، فالوطنيةُ تحميها قيَم المواطنة، ولأن الفلسطيني يرفضُ التوطين، انطلاقاً من وعيه الوطني، وصار يربطُ بين رفضِه صفقةَ القرن، ومعاقبته بلقمة عيشه في كل مكان، كما رفضه للتطبيع مع العدو يؤدي إلى هدم بيته في القدس، إذا كانتِ الوطنيةُ سلوكاً، وممارسةً، فإن الفلسطينيّ سيكون النموذج الأكثر تجسيداً لها، هاجسه لحماية الذات، والشخصية، والهوية، حذراً من ثقافةِ الإقصاء، ومنعِ التنوّع، ورفضِ الاختلاف، وتجاهلِ قيم الآخر.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يُعادَ إنتاجُ ثقافة الكراهية، ومن مياه الحرب الأهلية الآسنة المتخمة بفوبيا الآخر، سواء كان مذهباً أو طائفة. نعم، ليس سهلاً أبداً أن تتعايش سياسةُ الإقصاء والإلغاء مع الشعور الوطنيّ بالانتماء.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يرفضَ صفقة القرن، ويحاربَ مخاطرَها، ومنها حقه بالعودة إلى وطنه، ويواجهُ تداعياتِها، ومنها التوطين، ولا لبنان بتركيبته قادر على ذلك. ثمة من يبحث عن طريق آخر، لا هي العودة، ولا هو التوطين، إنّما التّرحيل ليس باتجاه الوطن، إنما إلى وطن ثالث، أي ترجمة غير مباشرة لخطة (الترانسفير)، التي أطلقَ عليها أحدُ الساسة في لبنان (بإعادة انتشار اللاجئين).
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن تخنقَ ظروفُ الحياة في كل مجالات العيش الكريم، من الصحة، أو التعليم، أو السكن، أو العمل، يتم إعاقتها، ورفضها، تحت شبهة التوطين، فيطمح البعضُ إلى اعتبار (الترانسفير) هو المواجهة الفعلية، وليس اللفظية لصفقة القرن.
ولم يكن صدفة، أن لا يسألُ أحدٌ لماذا العدد الفعلي للاجئين المقيمين في لبنان وصل إلى هذا الرقم (174422)، وبعيداً عن تسييس الأرقام، فهو العدد القريب من الحقيقة. هو ذلك الذي أكده تعدادُ السّكان الذي أجراه مركزُ الإحصاء اللبنانيّ في المخيمات والتجمعات التي يسكنها فلسطينيون، في نهاية 2017. المفترض أن يتضاعفَ العددُ بفعل النموّ الديموغرافي، لكن السّؤال المؤلم هنا، لماذا خلص إلى هذا العدد؟!
ولم يكن محضَ صدفةٍ، أن يصير خطابُ العنصريةِ وسيلةً لترجمة صفقة القرن، وليس لمواجهتها، عبر استخدام القانون، كأداةٍ للتّمييز الاجتماعي، ويخدم هذه البيئة، لأنها من داخلها، وليس من خارجها، والخلفية هي السياسة، وليس تفسير القانون، وهو يأتي في نطاق رفض التعامل الوطني، والإنساني، في إيجاد مقاربة جديدة، وأخلاقية مع الملف الفلسطيني بواقعيةٍ، وإيجابيةٍ، وإنسانية.
لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يستمرَّ النّزف ليس من واقع الزيادة والنقصان بالولادات، والوفيات، والهجرة وغيرها. إنما بواقع تفريغ المخيمات من فلسطينييها، سواءً بتركهم المدن، أو بالرحيل غرباً، وأنّ اللاجئ الفلسطيني هو خزّان الثّورة، وكما كتبت "حنا آرندت" في نصّها عن اللاجئين بقولها: "اللاجئون طليعة شعوبهم"، لذلك يبقى الفقدان مولّداً لشحنات الوطنية، فتحضر فلسطين صدى لصراخه في الغيتوات حيث الإنسان مهددٌ بأمنه الإنساني، وأمانه الاجتماعيّ، ووجوده، وكرامته، وحين يُفرضُ عليه أن يختارَ بين استبداد النفي من العمل أو المنفي ثانيةً، والأهم أن يجدَ نفسه أمام مستقبلٍ بلا يقين.
لذا، لم يكن محضَ صدفةٍ، أن يقرّرَ "الغيتو" الفلسطيني بكامل قواه، وكائناته، وتكويناته أن يقرع جدران اليأس، جدران الحرمان، جدران الخزّان، ولكن هل هناك من يسمع؟
*روائي وقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين