القدس الآن... صراع البقاء والصمود أمام سياسات التهجير القسري للسكان

بعد إعلان ترامب القدس عاصمة للكيان الصهيوني كدولة يهودية وصدور قانون القومية "الاسرائيلي"، تسارعت وتيرة الإجراءات الاحتلالية والاحلالية بالقدس وتزايدت وتيرة إصدار القوانين والإجراءات التعسفية العنصرية تجاه السكان الفلسطينيين وخاصة في مدينة القدس. وكما نعلم جميعاً، وفي لمحة تاريخية سريعة في ضوء القانون الدولي، تعتبر القدس جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ممّا يعني أنّ اتفاقيات جنيف تنطبق عليها ولا يحق لـ"اسرائيل" الادّعاء بالسيادة على القدس، وبخاصّة أنّها سيطرت عليها بطريق اللجوء إلى القوة العسكرية؛ إلّا أنّ قانون ضم وتوحيد القدس المُسَن من الكنيست عام 1980 تجاهلَ القانون الدولي وقوننَ وشرعنَ احتلاله للمدينة خالقاً واقعاً قانونيّاً وسكانيّاً مزدوجَ المعايير، فتارةً تنطبق على السكان القوانين العثمانية باعتبار أنّ الاحتلال لا يملك قوة سن التشريعات الجديدة إلّا بما يخدم تسيير حياة الناس، وتارةً أخرى يستخدم القوانين العسكرية وغيرها التي تجبر السكان على الامتثال لقوانين دولة الاحتلال.

تعاني مدينة القدس من نظامٍ إسكانيٍّ معقد جرّاء سياسات الاحتلال، حيث أن السياسة الصهيونية في المدينة تتلخّص في خفض عدد المواطنين الفلسطينيين فيها. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الخارطة الهيكلية التابعة لبلدية الاحتلال في القدس لعام 2020، والتي تهدف إلى "ضمان أغلبية يهودية مطلقة في المدينة من خلال خلق إطار للمضي في تطوير مدينة القدس لتكون عاصمة "الدولة اليهودية" ومقرّ حكومتها". وتنفيذاً لهذه السياسة، لجأت بلدية الاحتلال في القدس إلى عدد من الإجراءات وقوننَتْها، ومنها إعلان 11% فقط من أراضي شرقي القدس أراضٍ سكنية يُسمَح البناء عليها، وتعقيد إجراءات منح التراخيص للبناء في جميع أنحاء القدس والترميم والبناء داخل البلدة القديمة، ممّا أدّى إلى تواجد أبنية بدون تراخيص خارج تلك المخططات الهيكلية التي تتجاهل الزيادة الطبيعية للسكان وحاجتهم إلى السكن كحقّ طبيعي في ظلّ التهديد المستمر بهدم المنازل تحت ذريعة عدم الترخيص. ناهيك عن إحياء القوانين العثمانية فيما يتعلّق بالأراضي الأميرية وأراضي الدولة والادّعاءات بانتهاء حق التأجير مع وفاة الجيل الثالث من المنتفعين بالأرض، لتجعلها ذريعة لها بعد مضيّ أكثر من 70 عاماً من الاحتلال، بهدف السيطرة على العقارات والممتلكات. أمّا قانون أملاك الغائبين، الذي لجأت إليه، فيجعل كل من غادر عقاراً يملكه وقت الحرب أو تغيّب عنه لفترة تزيد عن 15 عاماً فاقداً لأحقيّة الاستفادة منه، ويعطي حارس أملاك الغائبين حقَّ تأجير الانتفاع منه لأيّ جهة يراها مناسبة بعقود إيجارٍ تصل إلى 99 عاماً. كما لجأت إلى قوانين تسجيل الأراضي المتوقف منذ العهد الأردني ما قبل الاحتلال عام 1967، حيث كانت معظم الأراضي في القدس آنذاك قيد التسجيل والاعتراض ولم يتم تسجيلها في السجلات الأردنية بشكل قطعي وإصدار كواشين الطابو لها. ضِفْ إلى ذلك إجراءات التزوير لعقود البيع والأراضي التي تتساهل المحكمة العليا في "إسرائيل" في تمريرها وتدحض تزويرها وترفض أيّ محاولات للاستئناف على قراراتها لصالح الجمعيات اليهودية.
ساهمت كلّ هذه القوانين والاجراءات في موجة من حالات التهجير القصري الجماعي لأحياء كاملة داخل المدينة لتنفيذ الرؤية الصهيونية بـ"القدس عاصمة لاسرائيل اليهودية" تحت مسميّات عدّة، منها الحدائق الوطنية التوراتية التي تكمّل الرواية التلمودية، كما هو الحال في وادي ياصول في سلوان وحي البستان وغيرها من أحياء بلدة سلوان، التي تُعَد من أقرب القرى إلى مركز مدينة القدس القديمة. كما أنّ هناك مخطّط استيطاني لتحويل معظم أراضي القرية إلى حدائق وطنية، وقد تم افتتاح مدينة للسواح تحت القرية عبر أنفاق تمّ حفرُها وصولاً إلى البلدة القديمة من القدس، وبالتحديد تحت قبة الصخرة في وسط المسجد الأقصى، و بمشاركة السفير الأميركي في "إسرائيل"، كرسالة سياسية مفادها عدم التوقف عن خلق واقع جديد يجعل من القدس "عاصمة لاسرائيل يقطنها اليهود فقط" .
إنّ استخدامَ ازدواجية القوانين والتلاعب بها هدّد أحياء الشيخ جراح القريبة من مركز المدينة مراراً، وأخيراً بستان الجاعوني الذي ينتظر مخطّطاً استيطانيّاً تهجيريّاً لا سابق له للفلسطينيّين القاطنين هناك. وهو بمثابة التهجير الثالث لهم بعد تهجيرهم في حرب 1948 عن قراهم الأصلية، ومن ثمّ إخراجهم من المخيمات التي أُعِدّت لهم زمن الحكومة الأردنية لإسكانهم في حي الشيخ جراح الذي ادّعى الكيان الصهيوني بأنّه من أراضي "الدولة"، وباعتباره "وريث حق الدولة" فإن عقد انتفاع السكّان من هذا الحي قد انتهى، وبالتالي يمهّد ذلك لتهجيرهم للمرة الثالثة منه .ولن ننسى معركة الخان الأحمر التي كانت حدّاً فاصلاً في وصل مستعمرات ما حول القدس بمستعمرات شمال الضفة الغربية وإنهاء الوجود الفلسطيني على امتداد المناطق المصنفة (E) بإنهاء الوجود البدوي فيها مع محاولات إعادة توطين البدو وحرمانهم من إرثهم الحضاري في ممارسة أسلوب الحياة المتعلّق بالبداوة ومصادرة آلاف الدونمات من أراضي الرعي .
وأخيراً تأتي "الذرائع الأمنية" لدولة محتلّة ترى كل ما حولها تهديداً لأمنها كما حصل في وادي الحمص وحي العمدان في قرية صور باهر جنوبي القدس التي حدّتها المستعمرات من الجهات الثلاث. ويتمّ منع القدرة التوسعية للسكان في الجهة الرابعة والملاصقة لحاجز زموريا العسكري تحت ذرائع أمنية، لتهدّد 32 عمارة سكنية من بينها 16 عمارة سكنية تضم 100 شقة بالتدمير، والتي تم صدور قرار الهدم في حقّها الشهر الماضي، فيما تنتظر باقي المنشآت صدور القرار المتداول في المحاكم. والجدير بالذكر أنّ هذه المناطق مصنّفة حسب أوسلو ضمن مناطق (أ) التابعة للسلطة الفلسطينية، وأنّ هذا الاجراء الذي نُفّذ خلال منتصف الليل ودون تردد مع دخول أول دقيقة من انتهاء مهلة الإخلاء، ما هو إلّا رسالة واضحة على تخطّي كل الاتفاقيات، وبالتالي إعلان نهاية "حل الدولتين" بشكلٍ قطعيّ .
في ظل تزايد هذه الاجراءات الاحتلالية في القدس لفرض سياسة الأمر الواقع للقدس عاصمة "اسرائيل الدولة اليهودية" يواجه المقدسيون وحدهم، دون أي معين أو نصير، تحدياتٍ جمّة في الحفاظ على صمودهم ومسيرة حياتهم في المدينة في ظل سياسات التهجير الجماعي المتجاهل لكل النداءات والقوانين الدولية بغية خلق واقع ديموغرافي جديد.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 362
`


رتيبة النتشة