الانتفاضة في طرابلس: ضدّ الطائفية، والتبعية والطبقية

"أم الفقير" لقب عرفت به مدينة طرابلس التي صُنّفت أفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسّط. هي نفسها المدينة التي أُقحِمت بنزاعات سياسية لا ذنب لها فيها فشهدت 22 جولة معارك تسببت بلقب جديد "قندهار لبنان".
مدينة طرابلس كما نعرفها في كتب التاريخ، مدينة صناعية، أمّا في الواقع، هناك غياب تام لهذا القطاع عنها، الأمر الذي أدّى إلى انتشار البطالة فيها بشكل كبير، في حين تتفنّن السّلطة في "تشحيد" أبنائها قطرات من الأموال في مواسم الانتخابات مستغلّة الفقر المدقع الذي يعانون منه. طرابلس الفيحاء التي اشتهرت برائحة الليمون تفوح في أرجائها، استعاضوا عنها برائحة النفايات التي غزت المدينة بجبل نفايات يبلغ علوّه 37 متراً، والأخطر أنّ هناك توجّهاً لاستحداث "جبل" جديد.

كلّ ما سبق ليس إلّا دافعاً لينتفض الشّعب الطّرابلسي، ويعطي درساً في الثّورة الحقيقيّة الّتي انبثقت في 17 تشرين الأوّل. وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على انتفاضة الشعب، وجّهت طرابلس البوصلة نحو المصارف وذلك لأن شعبها المتهم بعدم وعيه السياسي أدرك وبكلّ وعي أنّ صلب أزمة الانهيار الاقتصادي يدور في فلك المصارف ولا سيّما مصرف لبنان وهندساته المالية، فكان الهدف الرّئيس للثّوار الاعتصام أمام مصرف لبنان وإقفاله. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أخذ المتظاهرون يجولون شوارع طرابلس وتوقّفوا أمام كلّ مصرف، هاتفين "سكروا سكروا". وأعلن أهل طرابلس الإضراب العام والعصيان المدني من خلال إغلاق جميع الدّوائر الرسمية والمصارف والمرافق العامة.


تبلور الوعي بسرعة هائلة خلال هذه الانتفاضة، بنبذ طرابلس للطّائفية وهي المتّهمة بالتّقوقع المذهبيّ فأظهرت وجهها الآخر الحقيقي، لتهتف لكل أرجاء الوطن المنتفض، لتصدح آلاف الحناجر من طرابلس بشعارات مثل "صور صور صور كرمالك بدنا نثور" و"من طرابلس للنّبطية معركتنا طبقيّة". ولا يُخفى على أحد أن ساحات وشوارع المدينة شهدت محاولات عدّة من قبل السلطة وأحزابها للتّدخل وخرق الانتفاضة. ففي اليوم الثاني منها، تلوّنت أرض ساحة النور بدماء شبابها بعد دخول سيارة تابعة للنائب السابق مصباح الأحدب وهو بداخلها، بهدف الانضمام إلى الشعب والادّعاء بأنّه يشارك أبناء المدينة وجعهم. لم تمرّ هذه المسرحية على الشعب الطرابلسي الذّي هتف لخروج الأحدب من بين المتظاهرين، فجاء ردّ مرافقي الأخير بإطلاق النار على الثوار العزّل. أدّت هذه الجريمة الموصوفة بحقّ الطرابلسيين إلى حالة من الغضب، اتجه على إثرها مجموعات كبيرة نحو شركة خاصّة للاحدب ونحو منزله وأضرموا النار فيهما.


في الواقع، لقّن الطرابلسيون السلطة درساً في يومهم الثاني في ساحة النور، فأكّدوا أنهم لن يسمحوا لأيٍّ كان بالتّسلق على ثورتهم وانتفاضتهم، الأمر الذي دفع إلى نزول حوالي ٧٠ ألف مواطناً إلى الساحات، التي ما زالت تحتشد كلّ يوم بالمنتفضين وبشكل متواصل.


والسّلطة اللبنانية، من جهتها، دائماً تتفوّق على نفسها في ارتكاب المزيد والمزيد من الهرطقات، فبعد استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، حاول منتسبو حزبه وأنصاره اختراق الساحات والتواجد بين الناس كحزب سلطة، محاولاً كسب الشّارع الطرابلسي من جديد، إلا أنّ الطرابلسيين، وللمرّة الثانية على التّوالي، أظهروا وعيهم في إدراك ألاعيب السّلطة، ولم يسمحوا لهم بتشويه المطالب المحقة أو التخريب.


من جهة أخرى، لا يمكن حصر محاولات إفشال الانتفاضة بأحزاب السّلطة فقط، فللأجهزة الأمنية حضورٌ بارز بين ثوار طرابلس، فهي تحاول السيطرة على مكبّرات الصوت في الساحة وتوجيه الناس نحو نعرات طائفية والتصويب السياسي فقط نحو العهد. إلّا أن أهل طرابلس مدركون أنّ الازمة لا تتمحور نحو العهد فقط، بل حول النظام الطائفي الذي كرّس ميليشيات الحرب الأهلية في لبنان وطرابلس. وقد صرخ أهل طرابلس في يوم انتفاضتهم الثالث في ساحة ثورتهم "الحرب الأهليّة انتهت في ١٧ تشرين!".


هذا بالإضافة إلى "المهرجان الفني" الذي تحاول زرعه الأجهزة الأمنية لتشتيت مطالب الانتفاضة، والذي شكّل استياءً وامتعاضاً لدى معظم المنتفضين من طلاب وعمال ومُعطّلين عن العمل. ولا شكّ أنّ العمل على الأرض مع الناس لتوجيه الخطاب السياسي شكّل تحديّاً كبيراً لهم، إلّا أنّهم عمِلوا جاهداً على التنسيق في ما بينهم وقاموا بتنظيم مسيرات وحوارات وحلقات نقاشية تهدف إلى توجيه المطالب وتسيطر على هذا التشتيت الممنهج الذي تعمل السلطة على خلقه.


يبقى الأمل في هؤلاء الطلاب والعمال الذين تواجدوا في الساحات ولا يزالون في الواجهة، مستمرّين في مطالبهم، في ظل غياب الاتحادات الطلابية والنقابات الفعّالة المستقلة عن أحزاب السلطة.
"عمّال وفلاحين وطلبة" يعملون ليلاً ونهاراً لاغتنام هذه الفرصة الذهبية لخلق تغيير فعلي وواقعي من خلال انتفاضة ١٧ أكتوبر.