عن أمل غير كاذب من بيروت

لم تنسَ بيروت، مثل كلّ المناطق، الاختناق الذي سبّبته الحرائق في منتصف شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر، فالناس وقفوا عاجزين أمام تخاذل مستفزّ للسلطة التي وقفت تتفرّج هازئة بحال الجموع عبر تصريحاتها. لم تخبُ خنقة المواطنين حين أمطرت السماء مساء الثلاثاء في 15 تشرين الأوّل/ أكتوبر، بل زادت وتيرتها مع ضرائب الحكومة التي نزلت كالصاعقة لتضرب المسمار الأخير في النعش، فانتفض الشعب عفويّاً ليطفىء حينها خنقة الحرائق. والتعاون الذي حصل في مناطق الحرائق وتبعه تنسيق من بيروت ومناطق أخرى لأجل تزويد الناس بكافّة احتياجاتهم، و"فتح الناس بيوتهم لناس لا يعرفونهم" قد يكون صورة مصغّرة للمشهد في بيروت بعد 17 تشرين الأوّل.

أن تنتظر الناس الوقوف على شرفات المنازل ونوافذها لتقرع الطناجر عند الساعة الثامنة مساء، ولتتناقل الابتسامات والتحيّات مع إيقاع الطناجر، هو الأملُ في بيروت. شيء ما خفيٌّ – وليس مؤامرة- يجمع الناس في الساحات. المشهد جميل على الأرض بين الناس في ساحات بيروت، ولكنّه مختلف حينما نراه من الخارج. ربّما، وبسبب تسارع وتيرة الأحدث والانتقال من يوم أوّل إلى عشرين دون تحليل منطقيّ للأيّام، لسنا قادرين على أن نعي ما حقّقناه في الانتفاضة هذه، ولسنا مدركين كيف بنيت علاقتنا بحيث أصبحنا نعرف وجوه بعضنا نحن الذين أعَدنا أملاكاً سرقوها منّا لتتنقّل فيها أشباح السلطة وداعموها.


ووراء الوجوه المتعبة في الساحات، صوتٌ داخليّ فرح بالوجوه الأخرى، صوتٌ يقول: نحنا ما زلنا هنا. ورغم الضياع في الموافقة على خطوات قادمة محدّدة، وفي توقّع ما سيحصل وما ستفاجؤنا فيه السلطة، يبقى ثابت واحد: لا عودة إلى الوراء. كسرت الانتفاضة تراكم سنوات من تبعيّة للسلطة وأحزابها، وفرضت نفسها في الشارع لأكثر من 24 يوما حتّى الآن.


الإحباط الآن في بيروت مشروعٌ ومنطقيّ، ولكن لن نترك المصارف تهزمنا. التقلّبات النفسيّة والمزاجيّة، لا تتناقض والإصرار على استمرار الانتفاضة أبدا، بل على العكس هي المكان الوحيد الذي يمكن أن نرتاح فيه قبل العودة إلى الساحة قلبا وقالبا. طلّاب الجامعات والمدارس، التحرّكات التي تنتصر على سلطة النقابة والاتحاد العمالي العام، استرجاع الأملاك العامّة، وجعل ساحتي الشهداء ورياض الصلح ساحاتنا اليوميّة الأكثر حياة، بعد سنوات من وظيفة ساحات لأشباح سوليدير، والصمود بعد كلّ محاولة خبيثة للسلطة، هذه كلّها هي الدعم النفسيّ لنا. سقط كلّ شيء، الآن نعرف كيف نستغل الإحباط أو نضعه في سياق واضح للانتفاضة وأحداثها.


المعركة الآن طبقيّة أكثر من أيّ وقت مضى، هكذا تخبرنا المصارف المغلقة، كلّما ظهر رئيس حزب سلطويّ ليحاول التلويح بمعركة طائفيّة. والمعركة طبقيّة وعليها ألا تضعنا في مواجهة مع من نالوا تسمية "زعران" للأسف، مهما حاولت السلطة العمل على ذلك. المعركة الأساسيّة هي أن نصبح فعلا في الخندق ذاته مع شباب الخندق والضاحية والشياح وحي اللجا ومع فقراء جميع أحزاب السلطة أو أولئك المضطرين إلى خوض التبعيّة لكي يضمنوا سلامة أهلهم وعملهم أو تعليمهم. المسألة مسألة وقت ربّما، ولكن الأمل الأكبر ينحصر فيها.


يعيش الناس روتينهم اليوميّ المتغيّر في التنقّل بين مرافق الدولة ومساحاتها العامّة وساحات نقاشها دون أن تغيب النبطيّة وصور وطرابلس وعكّار عن تفكيرهم. وهناك في بيروت، حيث السّلطة المركزيّة، ما زلنا مستمرّين في المواجهة. وفي بعض المناطق، حيث وقفوا الناس في وجه الزعماء، لم تجد أحزاب السلطة مخرجاً غير الضرب والتهديد والتكسير حين شعرت بانقلاب شعبيّ عليهم وخسرت شريحة كبيرة من الطبقة الفقيرة والوسطى التي كانت تابعة لهم بسبب الحاجة الماديّة أو اللعب على وتر الدين والعقيدة. شيء ما انكسر هناك، لن نترك له مجالاً ليعودَ كما كان. حتّى تبقى بيروت جميلة، عليها ألّا تتخلّى عن من في ساحة المعركة الحاسمة.


لا يغيب عن بال الناس في بيروت الأزمة الماليّة التي تنذر الدولة بها، ولكنهم يعرفون من سببها، ولذلك لن يتركوا الشارع في بيروت. لن تبقى بيروت جميلة إن خلت ساحاتنا وإن تركت أملاكنا العامّة في متناول الطبقة البرجوازيّة وأصحاب النفوذ السلطويّ، وإن لم نستيقظ صباحا لنتوجّه تلقائيّا إلى ساحة الرياض الصلح، أو قصر العدل، أو شركتي الاتصالات أو بحرنا الذي أطلقوا عليه تسميات غريبة مثل "زيتونة باي" و"إيدن باي". ما بعد الانتفاضة، لا نهتمّ بالإحباط والروتين، ما يشغلنا هو كيف ستظلّ بيروت جميلة مثل اليوم.